المسألة الرابعة : اختلف الناس في أن فرعون هل كان عارفاً بالله تعالى فقيل إنه كان عارفاً إلا أنه كان يظهر الإنكار تكبراً وتجبراً وزوراً وبهتاناً، واحتجوا عليه بستة أوجه. أحدها : قوله :﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـا ؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ﴾ (الإسراء : ١٠٢) فمتى نصبت التاء في علمت كان ذلك خطاباً من موسى عليه السلام مع فرعون فدل ذلك على أن فرعون كان عالماً بذلك وكذا قوله تعالى :﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ﴾ (النمل : ١٤). وثانيها : أنه كان عاقلاً وإلا لم يجز تكليفه وكل من كان عاقلاً قد علم بالضرورة أنه وجد بعد العدم وكل من كان كذلك افتقر إلى مدبر وهذان العلمان الضروريان يستلزمان العلم بوجود المدبر. وثالثها : قول موسى عليه السلام ههنا :﴿رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىءٍ خَلْقَه ثُمَّ هَدَى ﴾ وكلمة الذي تقتضي وصف المعرفة بجملة معلومة فلا بد وأن تكون هذه الجملة قد كانت معلومة له. ورابعها : قوله في سورة القصص في صفة فرعون وقومه وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون فذلك يدل على أنهم كانوا عالمين بالمبدأ إلا أنهم كانوا منكرين للمعاد. وخامسها : أن ملك فرعون لم يتجاوز القبط ولم يبلغ الشام ولما هرب موسى عليه السلام إلى مدين قال له شعيب :﴿لا تَخَفْا نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ﴾ (القصص : ٢٥) فمع هذا كيف يعتقد أنه إله العالم ؟
وسادسها : أنه لما قال :﴿وَمَا رَبُّ الْعَـالَمِينَ﴾ قال موسى عليه السلام :﴿رَّبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ (الشعراء : ٢٤) قال :﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ (الشعراء : ٢٧) يعني أنا أطلب منه الماهية وهو يشرح الوصف / فهو لم ينازع موسى في الوجود بل طلب منه الماهية فدل هذا على اعترافه بأصل الوجود، ومن الناس من قال إنه كان جاهلاً بربه واتفقوا على أن العاقل لا يجوز أن يعتقد في نفسه أنه خالق هذه السموات والأرضين والشمس والقمر وأنه خالق نفسه لأنه يعلم بالضرورة عجزه عنها ويعلم بالضرورة أنها كانت موجودة قبله فيحصل العلم الضروري بأنه ليس موجوداً لها ولا خالقاً لها، واختلفوا في كيفية جهله بالله تعالى فيحتمل أنه كان دهرياً نافياً للمؤثر أصلاً، ويحتمل أنه كان فلسفياً قائلاً بالعلة لموجبه، ويحتمل أنه كان من عبدة الكواكب، ويحتمل أنه كان من الحلولية المجسمة. وأما ادعاؤه الربوبية لنفسه فبمعنى أنه يجب عليهم طاعته والانقياد له وعدم الاشتغال بطاعة غيره.
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ٦٢
المسألة الخامسة : أنه سبحانه حكى عنه في هذه السورة أنه قال :﴿فَمَن رَّبُّكُمَا يَـامُوسَى ﴾ وقال في سورة الشعراء :﴿وَمَا رَبُّ الْعَـالَمِينَ﴾ فالسؤال ههنا بمن وهو عن الكيفية وفي سورة الشعراء بما وهو عن الماهية وهما سؤالان مختلفان والواقعة واحدة والأقرب أن يقال سؤال من كان مقدماً على سؤال ما لأنه كان يقول إني أنا الله والرب فقال فمن ربكما فلما أقام موسى الدلالة على الوجود وعرف أنه لا يمكنه أن يقاومه في هذا المقام لظهوره وجلائه عدل إلى المقام الثاني وهو طلب الماهية وهذا أيضاً مما ينبه على أنه كان عالماً بالله لأنه ترك المنازعة في هذا المقام لعلمه بغاية ظهوره وشرع في المقام الصعب لأن العلم بماهية الله تعالى غير حاصل للبشر.
المسألة السادسة : إنما قال :﴿فَمَن رَّبُّكُمَا﴾ ولم يقل فمن إلهكما لأنه أثبت نفسه رباً في قوله :﴿أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ﴾ (الشعراء : ١٨) فذكر ذلك على سبيل التعجب كأنه قال له أنا ربك فلم تدعى رباً آخر وهذا الكلام شبيه بكلام نمروذ لأن إبراهيم عليه السلام لما قال :﴿رَبِّيَ الَّذِى يُحْىِا وَيُمِيتُ﴾ (البقرة : ٢٥٨) قال نمروذ له :﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى﴾ (البقرة : ٢٥٨) ولم يكن الإحياء والإماتة التي ذكرهما إبراهيم عليه السلام هما الذي عارضه بهما نمروذ إلا في اللفظ فكذا ههنا لما ادعى موسى ربوبية الله تعالى ذكر فرعون هذا الكلام ومراده أني أنا الرب لأني ربيتك ومعلوم أن الربوبية التي ادعاها موسى لله سبحانه وتعالى غير هذه الربوبية في المعنى وأنه لا مشاركة بينهما إلا في اللفظ.
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ٦٢


الصفحة التالية
Icon