المسألة الثانية ؛ قوله :﴿وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ﴾ ويحتمل أن يكون المراد لا تعجل بقراءته في نفسك، ويحتمل أن لا تعجل في تأديته إلى غيرك، ويحتمل في اعتقاد ظاهره، ويحتمل في تعريف الغير ما يقتضيه ظاهره، وأما قوله :﴿مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى ا إِلَيْكَ وَحْيُه ﴾ فيحتمل أن يكون المراد من قبل أن يقضى إليك تمامه، ويحتمل أن يكون المراد من قبل أن يقضى إليك بيانه، لأن هذين الأمرين لا يمكن تحصيلهما إلا بالوحي، ومعلوم أنه عليه السلام لا ينهى عن قراءته لكي يحفظه ويؤديه فالمراد إذن أن لا يبعث نفسه ولا يبعث غيره عليه حتى يتبين بالوحي تمامه أو بيانه أو هما جميعاً، لأنه يجب التوقف في معنى الكلام ما لم يأت عليه الفراغ لما يجوز أن يحصل عقيبه من استثناء أو شرط أو غيرهما من المخصصات فهذا هو التحقيق في تفسير الآية. ولنذكر أقوال المفسرين : أحدها : أن هذا كقوله تعالى :﴿لا تُحَرِّكْ بِه لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِه ﴾ (القيامة : ١٦) وكان عليه السلام يحرص على أخذ القرآن من جبريل عليه السلام فيعجل بقراءته قبل استتمام جبريل مخافة النسيان فقيل له : لا تعجل إلى أن يستتم وحيه فيكون أخذك إياه عن تثبت وسكون والله تعالى يزيدك فهماً وعلماً، وهذا قول مقاتل والسدي ورواه عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما. وثانيها : لا تعجل بالقرآن فتقرأه على أصحابك قبل أن يوحى إليك بيان معانيه وهذا قول مجاهد وقتادة. وثالثها : قال الضحاك : إن أهل مكة وأسقف نجران قالوا : يا محمد أخبرنا عن كذا وكذا وقد ضربنا لك أجلاً ثلاثة أيام فأبطأ الوحي عليه وفشت المقالة بأن اليهود قد غلبوا محمداً فأنزل الله تعالى هذه الآية :﴿وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ﴾ أي بنزوله من قبل أن يقضى إليك وحيه من اللوح المحفوظ إلى إسرافيل ومنه إلى جبريل ومنه إليك :﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْمًا﴾. ورابعها : روى الحسن أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلّم فقالت : زوجي لطم وجهي فقال : بينكما القصاص فنزل قوله :﴿وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ﴾ فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن القصاص حتى نزول قوله تعالى :﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ﴾ (النساء : ٣٤) وهذا بعيد والاعتماد على التفصيل الأول أما قوله تعالى :﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْمًا﴾ فالمعنى أنه سبحانه وتعالى أمره بالفزع إلى الله سبحانه في زيادة العلم التي تظهر بتمام القرآن أو بيان ما نزل عليه.
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٠٥
المسألة الثالثة : الاستعجال الذي نهى عنه إن كان فعله بالوحي فكيف نهى عنه. الجواب : لعله فعله بالاجتهاد، وكان الأولى تركه، فلهذا نهى عنه.
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٠٥
١٠٧
اعلم أن هذا هي المرة السادسة من قصة آدم عليه السلام في القرآن : أولها في سورة البقرة ثم في الأعراف ثم في الحجر ثم في الإسراء ثم في الكهف، ثم ههنا. واعلم أن في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوهاً. أحدها : أنه تعالى لما قال :﴿كَذَالِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنابَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ ﴾ (طه : ٩٩) ثم إنه عظم أمر القرآن وبالغ فيه ذكر هذه القصة انجازاً للوعد في قوله :﴿كَذَالِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنابَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ ﴾. وثانيها : أنه لما قال :﴿وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا﴾ (طه : ١١٣) أردفه بقصة آدم عليه السلام كأنه قال : إن طاعة بني آدم للشيطان وتركهم التحفظ من وساوسه أمر قديم فإنا قد عهدنا إلى آدم من قبل أي من قبل هؤلاء الذين صرفنا لهم الوعيد وبالغنا في تنبيهه حيث قلنا :﴿إِنَّ هَـاذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ﴾ ثم إنه مع ذلك نسي وترك ذلك العهد فأمر البشر في ترك التحفظ من الشيطان أمر قديم. وثالثها : أنه لما قال لمحمد صلى الله عليه وسلّم :﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْمًا﴾ (طه : ١١٤) ذكر بعده قصة آدم عليه السلام فإنه بعدما عهد الله إليه وبالغ في تجديد العهد وتحذيره من العدو نسي، فقد دل ذلك على ضعف القوة البشرية عن التحفظ فيحتاج حينئذ إلى الاستعانة بربه في أن يوفقه لتحصيل العلم ويجنبه عن السهو والنسيان. ورابعها : أن محمداً صلى الله عليه وسلّم لما قيل له :﴿وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى ا إِلَيْكَ وَحْيُه ﴾ (طه : ١١٤) دل على أنه كان في الجد في أمر الدين بحيث زاد على قدر الواجب فلما وصفه بالإفراط وصف آدم بالتفريط في ذلك فإنه تساهل في ذلك ولم يتحفظ حتى نسي فوصف الأول بالتفريط والآخر بالإفراط ليعلم أن البشر لا ينفك عن نوع زلة. وخامسها : أن محمداً صلى الله عليه وسلّم لما قيل له :
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٠٧