المسألة الثانية : الشبع والري والكسوة والإكتنان في الظل هي الأقطاب التي يدور عليها أمر الإنسان. فذكر الله تعالى حصول هذه الأشياء له في الجنة من غير حاجة إلى الكسب والطلب وذكرها بلفظ النفي لأضدادها التي هي الجوع والعري والظمأ والضحى ليطرق سمعه شيئاً من أصناف الشقوة التي حذره منها حتى يبالغ في الاحتراز عن السبب الذي يوقعه فيها، وهذه الأشياء كلها كأنها تفسير الشقاء المذكور في قوله :﴿فَتَشْقَى ﴾.
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٠٧
١١٠
واعلم أنه سبحانه بين أنه عظم آدم عليه السلام بأن جعله مسجوداً للملائكة وبين أنه عرفه شدة عداوة إبليس له ولزوجه وأنه لعداوته يدعوهم إلى المعصية التي إذا وقعت زالت تلك النعم بأسرها، ثم إنه مع ذلك اتفق منه ومن حواء الإقدام على الزلة ما اتفق، والعجب ما روي عن أبي أمامة الباهلي قال :"لو أن أحلام بني آدم إلى قيام الساعة وضعت في كفة ميزان ووضع حلم آدم في الأخرى لرجح حلمه بأحلامهم" ولكن المكادحة مع قضاء الله تعالى ممتنعة، واعلم أن واقعة آدم عجيبة وذلك لأن الله تعالى رغبه في دوام الراحة وانتظام المعيشة بقوله :﴿فَقُلْنَا يَـا ـاَادَمُ إِنَّ هَـاذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيهَا وَلا تَضْحَى ﴾ (طه : ١١٧ ـ ١١٩) ورغبه إبليس أيضاً في دوام الراحة بقوله :﴿هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ﴾ وفي انتظام المعيشة بقوله :﴿وَمُلْكٍ لا يَبْلَى ﴾ فكان الشيء الذي رغب الله آدم فيه هو الذي رغبه إبليس فيه إلا أن الله تعالى وقف ذلك على الاحتراس عن تلك الشجرة وإبليس وقفه على الإقدام عليها، ثم إن آدم عليه السلام مع كمال عقله وعلمه بأن الله تعالى مولاه وناصره ومربيه أعلمه بأن إبليس عدوه حيث امتنع من السجود له وعرض نفسه للعنة بسبب عداوته، كيف قبل في الواقعة الواحدة والمقصود الواحد قول إبليس مع علمه بكمال عداوته له وأعرض عن قول الله تعالى مع علمه بأنه هو الناصر والمربي. ومن تأمل في هذا الباب طال تعجبه وعرف آخر الأمر أن هذه القصة كالتنبيه على أنه لا دافع لقضاء الله ولا مانع منه، وأن الدليل وإن كان في غاية الظهور ونهاية القوة فإنه لا يحصل النفع به إلا إذا قضى الله تعالى ذلك وقدره. وأما قوله :﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَـانُ﴾ (
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١١٠


الصفحة التالية
Icon