فالمعنى لما علموا شدة عذابنا وبطشنا علم حس ومشاهدة ركضوا في ديارهم، والركض ضرب الدابة بالرجل، ومنه قوله تعالى :﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ﴾ فيجوز أن يكونوا ركبوا دوابهم يركضونها هاربين منهزمين من قريتهم لما أدركتهم مقدمة العذاب، ويجوز أن يشبهوا في سرعة عدوهم على أرجلهم بالراكبين الراكضين، أما قوله :﴿لا تَرْكُضُوا ﴾ قال صاحب "الكشاف" : القول محذوف، فإن قلت من القائل قلنا يحتمل أن يكون بعض الملائكة ومن ثم من المؤمنين، أو يكونوا خلقاء بأن يقال لهم ذلك وإن لم يقل، أو يقوله رب العزة ويسمعه ملائكته لينفعهم في دينهم أو يلهمهم ذلك فيحدثون به نفوسهم، أما قوله :﴿وَارْجِعُوا إِلَى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَـاكِنِكُمْ﴾ أي من العيش والرفاهية والحال الناعمة، والإتراف إبطار النعمة وهي الترفه، أما قوله تعالى :﴿لَعَلَّكُمْ تُسْـاَلُونَ﴾ فهو تهكم بهم وتوبيخ، ثم فيه وجوه : أحدها : أي ارجعوا إلى نعمكم ومساكنكم لعلكم تسألون غداً عما جرى عليكم ونزل بأموالكم ومساكنكم فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة. وثانيها : ارجعوا كما كنتم في مجالسكم حتى تسألكم عبيدكم ومن ينفذ فيه أمركم ونهيكم ويقول لكم بم تأمرون وماذا ترسمون كعادة المخدومين. وثالثها : تسألكم الناس في أنديتكم لتعاونوهم في نوازل الخطوب ويستشيرونكم في المهمات ويستعينون بآرائكم. ورابعها : يسألكم الوافدون عليكم والطامعون فيكم إما لأنهم كانوا أسخياء ينفقون أموالهم رئاء الناس وطلب الثناء أو كانوا بخلاء فقيل لهم ذلك تهكماً إلى تهكم وتوبيخاً إلى توبيخ، أما قوله تعالى :﴿فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ﴾ لأنها عدوى كأنه قيل فما زالت تلك الدعوى دعواهم، والدعوى بمعنى الدعوة قال تعالى :﴿تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الانْهَـارُ فِي جَنَّـاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاـاهُمْ فِيهَا سُبْحَـاـنَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَـامٌا وَءَاخِرُ دَعْوَاـاهُمْ﴾ (يونس : ١٠) فإن قلت : لم سميت دعوى ؟
قلت : لأنهم كانوا دعوا بالويل :﴿فَقَالُوا يَـالَيْتَنَا﴾ أي يا ويل احضر فهذا وقتك، وتلك مرفوع أو منصوب إسماً أو خبراً وكذلك :﴿كَانَ دَعْوَاـاهُمْ﴾ قال المفسرون : لم يزالوا يكررون هذه الكلمة فلم ينفعهم ذلك كقوله تعالى :﴿فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَـانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ﴾ (غافر : ٨٥) أما قوله :﴿حَتَّى جَعَلْنَـاهُمْ حَصِيدًا خَـامِدِينَ﴾ / فالحصيد الزرع المحصود أي جعلناهم مثل الحصيد شبههم به في استئصالهم، كما تقول جعلناهم رماداً أي مثل الرماد فإن قيل : كيف ينصب جعل ثلاثة مفاعيل، قلت : حكم الاثنين الأخيرين حكم الواحد والمعنى جعلناهم جامعين لهذين الوصفين، والمراد أنهم أهلكوا بذلك العذاب حتى لم يبق لهم حس ولا حركة وجفوا كما يجف الحصيد، وخمدوا كما تخمد النار.
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٢٤


الصفحة التالية
Icon