المسألة الثانية : قال القاضي عبد الجبار : دلت الآية على أن اللعب ليس من قبله تعالى إذ لو كان كذلك لكان لاعباً فإن اللاعب في اللغة اسم لفاعل اللعب فنفى الاسم الموضوع للفعل يقتضي نفي الفعل. والجواب : يبطل ذلك بمسألة الداعي عن ما مر غيره مرة أما قوله :﴿لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا اتَّخَذْنَـاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَـاعِلِينَ﴾ فاعلم أن قوله :﴿اتَّخَذْنَـاهُ مِن لَّدُنَّآ﴾ معناه من جهة قدرتنا. وقيل : اللهو الولد بلغة اليمن وقيل : المرأة وقيل من لدنا أي من الملائكة لا من الإنس رداً لمن قال بولادة المسيح وعزيز فأما قوله تعالى :﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَـاطِلِ﴾ فاعلم أن قوله :﴿بَلِ﴾ / اضراب عن اتخاذ اللهو واللعب وتنزيه منه لذاته كأنه قال سبحاننا أن نتخذ اللهو واللعب بل من عادتنا وموجب حكمتنا أن نغلب اللعب بالجد وندحض الباطل بالحق، واستعار لذلك القذف والدمغ تصويراً لإبطاله فجعله كأنه جرم صلب كالصخرة مثلاً قذف به على جرم رخو فدمغه، فأما قوله تعالى :﴿وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾ يعني من تمسك بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلّم ونسب القرآن إلى أنه سحر وأضغاث أحلام إلى غير ذلك من الأباطيل، وهو الذي عناه بقوله :﴿مِمَّا تَصِفُونَ﴾.
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٢٥
١٢٦
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان. الأول : أنه تعالى لما نفى اللعب عن نفسه ونفي اللعب لا يصح إلا بنفي الحاجة ونفي الحاجة لا يصح إلا بالقدرة التامة، لا جرم عقب تلك الآية بقوله :﴿وَلَه مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ ﴾ لدلالة ذلك على كمال الملك والقدرة. الثاني : وهو الأقرب أنه تعالى لما حكى كلام الطاعنين في النبوات وأجاب عنها وبين أن غرضهم من تلك المطاعن التمرد وعدم الإنقياد بين في هذه الآية أنه تعالى منزه عن طاعتهم لأنه هو المالك لجميع المحدثات والمخلوقات، ولأجل أن الملائكة مع جلالتهم مطيعون له خائفون منه فالبشر مع نهاية الضعف أولى أن يطيعوه.
المسألة الثانية : قوله :﴿وَلَه مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ ﴾ معناه أن كل المكلفين في السماء والأرض فهم عبيده وهو الخالق لهم والمنعم عليهم بأصناف النعم، فيجب على الكل طاعته والانقياد لحكمه.
المسألة الثالثة : دلالة قوله :﴿وَمَنْ عِندَه لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِه ﴾ على أن الملك أفضل من البشر من ثلاثة أوجه قد تقدم بيانها في سورة البقرة.
المسألة الرابعة : قوله :﴿وَمَنْا عِندَهُ﴾ المراد بهم الملائكة بإجماع الأمة ولأنه تعالى وصفهم بأنهم :﴿يُسَبِّحُونَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ﴾ وهذا لا يليق بالبشر وهذه العندية عندية الشرف والرتبة لا عندية المكان والجهة، فكأنه تعالى قال : الملائكة مع كمال شرفهم ونهاية جلالتهم لا يستكبرون عن طاعته فكيف يليق بالبشر الضعيف التمرد عن طاعته.
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٢٦
المسألة الخامسة : قال الزجاج : ولا يستحسرون ولا يتعبون ولا يعيون قال صاحب "الكشاف" : فإن قلت الاستحسار مبالغة في الحسور فكأن الأبلغ في وصفهم أن ينفي عنهم أدنى / الحسور قلت في الأستحسار بيان أن ما هم فيه يوجب غاية الحسور وأقصاه وأنهم أحقاء لتلك العبادات الشاقة بأن يستحسروا فيما يفعلون أما قوله تعالى :﴿يُسَبِّحُونَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ﴾ فالمعنى أن تسبيحهم متصل دائم في جميع أوقاتهم لا يتخلله فترة بفراغ أو بشغل آخر، روي عن عبد الله بن الحرث بن نوفل، قال : قلت لكعب : أرأيت قول الله تعالى :﴿يُسَبِّحُونَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ﴾ ثم قال :﴿جَاعِلِ الملائكة رُسُلا﴾ (فاطر : ١) أفلا تكون تلك الرسالة مانعة لهم عن هذا التسبيح وأيضاً قال :﴿ أولئك عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ والملائكة وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ (البقرة : ١٦١) فكيف يشتغلون باللعن حال اشتغالهم بالتسبيح ؟
أجاب كعب الأحبار فقال : التسبيح لهم كالتنفس لنا فكما أن اشتغالنا بالتنفس لا يمنعنا من الكلام فكذا اشتغالهم بالتبسيح لا يمنعهم من سائر الأعمال. فإن قيل هذا القياس غير صحيح لأن الإشتغال بالتنفس إنما لم يمنع من الكلام، لأن آلة التنفس غير آلة الكلام أما التسبيح واللعن فهمنا من جنس الكلام فاجتماعهما محال. والجواب : أي استبعاد في أن يخلق الله تعالى لهم ألسنة كثيرة ببعضها يسبحون الله وببعضها يلعنون أعداء الله، أو يقال معنى قوله :﴿لا يَفْتُرُونَ﴾ أنهم لا يفترون عن العزم على أدائه في أوقاته اللائقة به كما يقال : إن إفلانا يواظب على الجماعات لا يفتر عنها لا يراد به أنه أبداً مشتغل بها بل يراد به أنه مواظب على العزم على أدائها في أوقاتها.
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٢٦
١٣٤