المسألة الثالثة : تمسكوا بهذه الآية في أنه أفضل من الملائكة، قالوا : لأن الملائكة من العالمين. فوجب بحكم هذه الآية أن يكون عليه السلام رحمة للملائكة، فوجب أن يكون أفضل منهم. والجواب : أنه معارض بقوله تعالى في حق الملائكة :﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ (غافر : ٧) وذلك رحمة / منهم في حق المؤمنين، والرسول عليه السلام داخل في المؤمنين، وكذا قوله تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـا اـاِكَتَه يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىِّ ﴾ (الأحزاب : ٥٦).
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ١٩٩
١٩٩
اعلم أنه تعالى لما أورد على الكفار الحجج في أن لا إله سواه من الوجوه التي تقدم ذكرها، وبين أنه أرسل رسوله رحمة للعالمين، أتبع ذلك بما يكون إعذاراً وإنذاراً في مجاهدتهم والإقدام عليهم، فقال :﴿قُلْ إِنَّمَا يُوحَى ا إِلَىَّ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" : إنما يقصر الحكم على شيء أو يقصر الشيء على حكم، كقولك إنما زيد قائم أو إنما يقوم زيد، وقد اجتمع المثالان في هذه الآية. لأن :﴿إِنَّمَا يُوحَى ا إِلَىَّ﴾ مع فاعله بمنزلة إنما يقوم زيد :﴿أَنَّمَآ إِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ ﴾ بمنزلة إنما زيد قائم، وفائدة اجتماعهما الدلالة على أن الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم مقصور على إثبات وحدانية الله تعالى وفي قوله ؛ ﴿فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ أن الوحي الوارد على هذا السنن يوجب أن تخلصوا التوحيد له وأن تتخلصوا من نسبة الأنداد، وفيه أنه يجوز إثبات التوحيد بالسمع. فإن قيل : لو دلت إنما على الحصر لزم أن يقال : إنه لم يوح إلى الرسول شيء إلا التوحيد ومعلوم أن ذلك فاسد، قلنا : المقصود منه المبالغة، أما قوله :﴿فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ ءَاذَنتُكُمْ عَلَى سَوَآءٍ ﴾ فقال صاحب "الكشاف" : آذن منقول من أذن إذا علم ولكنه كثر استعماله في الجري مجرى الإنذار، ومنه قوله :﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِه ﴾ (البقرة : ٢٧٩) إذا عرفت هذا فنقول : المفسرون ذكروا فيه وجوهاً. أحدها : قال أبو مسلم : الإيذان على / السواء الدعاء إلى الحرب مجاهرة لقوله تعالى :﴿فَانابِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآءٍ ﴾ (الأنفال : ٥٨) وفائدة ذلك أنه كان يجوز أن يقدر على من أشرك من قريش أن حالهم مخالف لسائر الكفار في المجاهدة، فعرفهم بذلك أنهم كالكفار في ذلك. وثانيها : أن المراد فقد أعلمتكم ما هو الواجب عليكم من التوحيد وغيره على السواء، فلم أفرق في الإبلاغ والبيان بينكم، لأني بعثت معلماً. والغرض منه إزاحة العذر لئلا يقولوا :﴿رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا﴾ (طه : ١٣٤). وثالثها : على سواء على إظهار وإعلان. ورابعها : على مهل، والمراد أني لا أعاجل بالحرب الذي آذنتكم به بل أمهل وأؤخر رجاء الإسلام منكم.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ١٩٩
أما قوله :﴿وَإِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ﴾ ففيه وجهان : أحدهما :﴿أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ﴾ من يوم القيامة، ومن عذاب الدنيا ثم قيل : نسخه قوله :﴿وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ﴾ (الأنبياء : ٩٧) يعني منهما، فإن مثل هذا الخبر لا يجوز نسخه. وثانيها : المراد أن الذي آذنهم فيه من الحرب لا يدري هو قريب أم بعيد لئلا يقدر أنه يتأخر كأنه تعالى أمره بأن ينذرهم بالجهاد الذي يوحى إليه أن يأتيه من بعد ولم يعرفه الوقت، فلذلك أمره أن يقول : إنه لا يعلم قربه أم بعده. تبين بذلك أن السورة مكية، وكان الأمر بالجهاد بعد الهجرة. وثالثها : أن ما يوعدون به من غلبة المسلمين عليهم كائن لا محالة ولا بد أن يلحقهم بذلك الذل والصغار، وإن كنت لا أدري متى يكون/ وذلك لأن الله تعالى لم يطلعني عليه.
أما قوله تعالى :﴿إِنَّه يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ﴾ فالمقصود منه الأمر بالإخلاص وترك النفاق، لأنه تعالى إذا كان عالماً بالضمائر وجب على العاقل أن يبالغ في الإخلاص.
أما قوله تعالى :﴿وَإِنْ أَدْرِى لَعَلَّه فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَـاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ ففيه وجوه ؛ أحدها : لعل تأخير العذاب عنكم. وثانيها : لعل إبهام الوقت الذي ينزل بكم العذاب فيه فتنة لكم أي بلية واختبار لكم ليرى صنعكم وهل تحدثون توبة ورجوعاً عن كفركم أم لا. وثالثها : قال الحسن : لعل ما أنتم فيه من الدنيا بلية لكم والفتنة البلوى والاختبار. ورابعها : لعل تأخير الجهاد فتنة لكم إذا أنتم دمتم على كفركم، لأن ما يؤدي إلى الضرر العظيم يكون فتنة، وإنما قال لا أدري لتجويز أن يؤمنوا فلا يكون تبقيتهم فتنة بل ينكشف عن نعمة ورحمة. وخامسها : أن يكون المراد وإن أدرى لعل ما بينت وأعلمت وأوعدت فتنة لكم، لأنه زيادة في عذابكم إن لم تؤمنوا لأن المعرض عن الإيمان مع البيان حالاً بعد حال يكون عذابه أشد، وإذا متعه الله تعالى بالدنيا يكون ذلك كالحجة عليه.