أما قوله تعالى :﴿قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرىء : قل رب أحكم بالحق على الإكتفاء بالكسرة (ورب احكم) على الضم (وربي أحكم) أفعل التفضيل (وربي أحكم) من الإحكام.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ١٩٩
المسألة الثانية :﴿رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ ﴾ فيه وجوه : أحدها أي ربي اقض بيني وبين قومي / بالحق أي بالعذاب. كأنه قال : اقص بيني وبين من كذبني بالعذاب، وقال قتادة : أمره الله تعالى أن يقتدي بالأنبياء في هذه الدعوة وكانوا يقولون :﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ﴾ (الأعراف : ٨٩) فلا جرم حكم الله تعالى عليهم بالقتل يوم بدر. وثانيها : افصل بيني وبينهم بما يظهر الحق للجميع وهو أن تنصرني عليهم.
أما قوله تعالى :﴿وَرَبُّنَا الرَّحْمَانُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ ففيه وجهان ؛ أحدهما : أي من الشرك والكفر وما تعراضون به دعوتي من الأباطيل والتكذيب كأنه سبحانه قال : قل داعياً لي :﴿رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ ﴾ وقل متوعداً للكفار :﴿وَرَبُّنَا الرَّحْمَانُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ قرأ ابن عامر بالياء المنقوطة من تحت، أي قل لأصحابك المؤمنين، وربنا الرحمن المستعان على ما يصف الكفار من الأباطيل، أي من العون على دفع أباطيلهم. وثانيها : كانوا يطمعون أن تكون لهم الشوكة والغلبة فكذب الله ظنونهم وخيب آمالهم ونصر رسوله صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين وخذلهم، قال القاضي : إنما ختم الله هذه السورة بقوله :﴿قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ ﴾ لأنه عليه السلام كان قد بلغ في البيان الغاية لهم وبلغوا النهاية في أذيته وتكذيبه فكان قصارى أمره تعالى بذلك تسلية له وتعريفاً أن المقصود مصلحتهم، فإذا أبوا إلا التمادي في كفرهم، فعليك بالانقطاع إلى ربك ليحكم بينك وبينهم بالحق، إما بتعجيل العقاب بالجهاد أو بغيره، وإما بتأخير ذلك فإن أمرهم وإن تأخر فما هو كائن قريب، وما روي أنه عليه السلام كان يقول ذلك في حروبه كالدلالة على أنه تعالى أمره أن يقول هذا القول كالإستعجال للأمر بمجاهدتهم وبالله التوفيق، وصلاته على خير خلقه محمد النبي وآله وصحبه وسلم تسليماً آمين.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ١٩٩
٢٠١
المسألة الثالثة : روى "أن هاتين الآيتين نزلتا بالليل والناس يسيرون فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فاجتمع الناس حوله فقرأهما عليهم، فلم ير باكياً أكثر من تلك الليلة، فلما أصبحوا لم يحطوا السرج ولم يضربوا الخيام ولم يطبخوا القدور، والناس بين باك وجالس حزين متفكر. فقال عليه السلام :"أتدرون أي ذلك اليوم هو ؟
قالوا الله ورسوله أعلم، قال ذلك يوم يقول الله لآدم عليه السلام قم فابعث بعث النار من ولدك، فيقول آدم وما بعث النار ؟
يعني من كم كم ؟
فيقول الله عز وجل من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة، فعند ذلك يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، فكبر ذلك على المؤمنين وبكوا، وقالوا فمن ينجو يا رسول الله ؟
فقال عليه الصلاة والسلام أبشروا وسددوا وقاربوا فإن معكم خليقتين ما كانا في قوم إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج، ثم قال إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبروا، ثم قال إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبروا وحمدوا الله، ثم قال إني لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة، إن أهل الجنة مائة وعشرون صفاً ثمانون منها أمتي وما المسلمون في الكفار إلا كالشامة في جنب البعير أو كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، ثم قال ويدخل من أمتي سبعون ألفاً إلى الجنة بغير حساب، فقال عمر سبعون ألفاً ؟
قال نعم ومع كل واحد سبعون ألفاً/ فقام عكاشة بن محصن فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فقال أنت منهم، فقام رجل من الأنصار فقال مثل قوله، فقال سبقك بها عكاشة" فخاض الناس في السبعين ألفاً فقال بعضهم هم الذين ولدوا على الإسلام، وقال بعضهم هم الذين آمنوا وجاهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بما قالوا فقال :"هم الذين لا يكتوون ولا يكوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون".
المسألة الرابعة : أنه سبحانه أمر الناس بالتقوى ثم علل وجوبها عليهم بذكر الساعة ووصفها بأهول صفة، والمعنى أن التقوى تقتضي دفع مثل هذا الضرر العظيم عن النفس، ودفع الضرر عن النفس معلوم الوجوب، فيلزم أن تكون التقوى واجبة.
المسألة الخامسة : احتجت المعتزلة بقوله تعالى :﴿إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ﴾ وصفها بأنها شيء مع أنها معدومة، واحتجوا أيضاً بقوله تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾ (البقرة : ٢٠) فالشيء الذي قدر الله عليه إما أن يكون موجوداً أو معدوماً، والأول محال وإلا لزم كون القادر قادراً على إيجاد الموجود، وإذا بطل هذا ثبت أن الشيء الذي قدر الله عليه معدوم فالمعدوم شيء. واحتجوا أيضاً بقوله تعالى :﴿وَلا تَقُولَنَّ لِشَا ىْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَالِكَ غَدًا﴾ (الكهف : ٢٣) أطلق اسم الشيء في الحال على ما يصير مفعولاً / غداً، والذي يصير مفعولاً غداً يكون معدوماً في الحال، فالمعدوم شيء والله أعلم والجواب : عن الأول أن الزلزلة عبارة عن الأجسام المتحركة وهي جواهر قامت بها أعراض وتحقق ذلك في المعدوم محال، فالزلزلة يستحيل أن تكون شيئاً حال عدمها، فلا بد من التأويل بالاتفاق. ويكون المعنى أنها إذا وجدت صارت شيئاً، وهذا هو الجواب عن البواقي.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٠٣
المسألة السادسة : وصف الله تعالى الزلزلة بالعظيم ولا عظيم أعظم مما عظمه الله تعالى. أما قوله تعالى :﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا﴾ فهو منصوب بتذهل أي تذهل في ذلك اليوم والضمير في ترونها يحتمل أن يرجع إلى الزلزلة وأن يرجع إلى الساعة لتقدم ذكرهما، والأقرب رجوعه إلى الزلزلة لأن مشاهدتها هي التي توجب الخوف الشديد. واعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر من أهوال ذلك اليوم أموراً ثلاثة أحدها : قوله :﴿تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ﴾ أي تذهلها الزلزلة والذهول الذهاب عن الأمر مع دهشة، فإن قيل : لم قال مرضعة دون مرضع ؟
قلت المرضعة هي التي في حال الإرضاع وهي ملقمة ثديها الصبي والمرضع شأنها أن ترضع، وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به، فقيل مرضعة ليدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته من فيه لما يلحقها من الدهشة، وقوله :﴿عَمَّآ أَرْضَعَتْ﴾ أي عن إرضاعها أو عن الذي أرضعته وهو الطفل فتكون ما بمعنى من على هذا التأويل. وثانيها : قوله :﴿وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا﴾ والمعنى أنها تسقط ولدها لتمام أو لغير تمام من هول ذلك اليوم وهذا يدل على أن هذه الزلزلة إنما تكون قبل البعث، قال الحسن : تذهل المرضعة عن ولدها بغير فطام وألقت الحوامل ما في بطونها لغير تمام، وقال القفال : يحتمل أن يقال من ماتت حاملاً أو مرضعة تبعث حاملاً أو مرضعة تضع حملها من الفزع، ويحتمل أن يكون المراد من ذهول المرضعة ووضع الحمل على جهة المثل كما قد تأول قوله :﴿يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا﴾، وثالثها : قوله :﴿وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى ﴾ وفيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon