أما قوله :﴿يَدْعُوا مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّه وَمَا لا يَنفَعُه ا ذَالِكَ هُوَ الضَّلَـالُ الْبَعِيدُ﴾ فالأقرب أنه المشرك الذي يعبد الأوثان وهذا كالدلالة على أن الآية لم ترد في اليهودي لأنه ليس ممن يدعو من دون الله الأصنام، والأقرب أنها واردة في المشركين الذين انقطعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم على وجه النفاق وبين تعالى أن :﴿ذالِكَ هُوَ الضَّلَـالُ الْبَعِيدُ﴾، وأراد به عظم ضلالهم وكفرهم، ويحتمل أن يعني بذلك بعد ضلالهم عن الصواب لأن جميعه وإن كان يشترك في أنه خطأ فبعضه أبعد من الحق من البعض، واستعير الضلال البعيد من ضلال من أبعد في التيه ضالاً وطالت وبعدت مسافة ضلاله.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢١٢
أما قوله تعالى :﴿يَدْعُوا لَمَن ضَرُّه ا أَقْرَبُ مِن نَّفْعِه ﴾ ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : اختلفوا في تفسيره على وجهين : أحدهما : أن المراد رؤساؤهم الذين كانوا يفزعون إليهم لأنه يصح منهم أن يضروا، وحجة هذا القول أن الله تعالى بين في الآية الأولى أن الأوثان لا تضرهم ولا تنفعهم، وهذه الآية تقتضي كون المذكور فيها ضاراً نافعاً، فلو كان المذكور في هذه الآية هو الأوثان لزم التناقض. القول الثاني : أن المراد الوثن وأجابوا عن التناقض بأمور : أحدها : أنها لا تضر ولا تنفع بأنفسها ولكن عبادتها سبب الضرر وذلك يكفي في إضافة الضرر إليها، كقوله تعالى :﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ ﴾ (إبراهيم : ٣٦) فأضاف الإضلال إليهم من حيث كانوا سبباً للضلال، فكذا ههنا نفي الضرر عنهم في الآية الأولى بمعنى كونها فاعلة وأضاف الضرر إليهم في هذه الآية بمعنى أن عبادتها سبب الضرر. وثانيها : كأنه سبحانه وتعالى بين في الآية الأولى أنها في الحقيقة لا تضر ولا تنفع، ثم قال في الآية الثانية : لو سلمنا كونها ضارة نافعة لكن ضررها أكثر من نفعها. وثالثها : كان الكفار إذا أنصفوا علموا أنه لا يحصل منها نفع ولا ضرر في الدنيا، ثم إنهم في الآخرة يشاهدون العذاب العظيم بسبب عبادتها، فكأنهم يقولون لها في الآخرة : إن ضرركم أعظم من نفعكم.
المسألة الثانية : اختلف النحويون في إعراب قوله :﴿لَمَن ضَرُّه ا أَقْرَبُ﴾.
أما قوله :﴿لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ﴾ فالمولى هو الولي والناصر، والعشير الصاحب والمعاشر، واعلم أن هذا الوصف بالرؤساء أليق لأن ذلك لا يكاد يستعمل في الأوثان، فبين تعالى أنهم يعدلون عن عبادة الله تعالى الذي يجمع خير الدنيا والآخرة إلى عبادة الأصنام وإلى طاعة الرؤساء/ ثم ذم الرؤساء بقوله :﴿لَبِئْسَ الْمَوْلَى ﴾ والمراد ذم من انتصر بهم والتجأ إليهم.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢١٢
٢١٤
اعلم أنه سبحانه لما بين في الآية السابقة حال عبادة المنافقين وحال معبودهم، بن في هذه الآية صفة عبادة المؤمنين وصفة معبودهم، أما عبادتهم فقد كانت على الطريق الذي لا يمكن صوابه، وأما معبودهم فلا يضر ولا ينفع. وأما المؤمنون فعبادتهم حقيقية ومعبودهم يعطيهم أعظم المنافع وهو الجنة، ثم بين كمال الجنة التي تجمع بين الزرع والشجر وأن تجري من تحتها الأنهار وبين تعالى أنه يفعل ما يريد بهم من أنواع الفضل والإحسان زيادة على أجورهم كما قال تعالى :﴿فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِه ﴾ واحتج أصحابنا في خلق الأفعال بقوله سبحانه :﴿إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ قالوا : أجمعنا على أنه سبحانه يريد الإيمان ولفظة ما للعموم فوجب أن يكون فاعلاً للإيمان لقوله :﴿إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ أجاب الكعبي عنه بأن الله تعالى يفعل ما يريد أن يفعله لا ما يريد أن يفعله غيره. والجواب : أن قوله ما يريد أعم من قولنا ما يريد أن يفعله ومن قولنا ما يريد أن يفعله غيره فالتقييد خلاف النص.
أما قوله :﴿مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ﴾ فالهاء إلى ماذا يرجع ؟
فيه وجهان : الأول : وهو قول ابن عباس والكلبي ومقاتل والضحاك وقتادة وابن زيد والسدي، واختيار الفراء والزجاج أنه يرجع إلى محمد صلى الله عليه وسلّم يريد أن من ظن أن لن ينصر الله محمداً صلى الله عليه وسلّم في الدنيا بإعلاء كلمته / وإظهار دينه، وفي الآخرة بإعلاء درجته والانتقام ممن كذبه والرسول صلى الله عليه وسلّم وإن لم يجر له ذكر في الآية ففيها ما يدل عليه وهو ذكر الإيمان في قوله :﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ والإيمان لا يتم إلا بالله ورسوله فيجب البحث ههنا عن أمرين : أحدهما : أنه من الذي كان يظن أن الله تعالى لا ينصر محمدًا صلى الله عليه وسلّم ؟
والثاني : أنه ما معنى قوله :﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَآءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ﴾ ؟
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢١٤


الصفحة التالية
Icon