أما قوله :﴿وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾ فقرىء بتشديد الفاء ثم يحتمل ذلك ما أوجبه الدخول في الحج من أنواع المناسك، ويحتمل أن يكون المراد ما أوجبوه بالنذر الذي هو القول، وهذا القول هو الأقرب فإن الرجل إذا حج أو اعتمر فقد يوجب على نفسه من الهدى وغيره ما لولا إيجابه لم يكن الحج يقتضيه فأمر الله تعالى بالوفاء بذلك.
أما قوله :﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ فالمراد الطواف الواجب وهو طواف الإفاضة والزيارة، أما كون هذا الطواف بعد الوقوف ورمي الجمار والحلق، ثم هو في يوم النحر أو بعده ففيه تفصيل، وسمى البيت العتيق لوجوه : أحدها : العتيق القديم لأنه أول بيت وضع للناس عن الحسن. وثانيها : لأنه أعتق من الجبابرة فكم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه الله تعالى وهو قول ابن عباس وقول ابن الزبير، ورووه عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولما قصد أبرهة فعل به ما فعل، فإن قيل فقد تسلط الحجاج عليه فالجواب : قلنا ما قصد التسلط على البيت وإنما تحصن به عبدالله بن الزبير فاحتال لإخراجه ثم بناه وثالثها : لم يملك قط عن ابن عيينة ورابعها : أعتق من الغرق عن مجاهد وخامسها : بيت كريم من قولهم عتاق الطير والخيل، واعلم أن اللام في ليقضوا وليوفوا وليطوفوا لام الأمر، وفي قراءة ابن كثير ونافع والأكثرين تخفيف هذه اللامات وفي قراءة أبي عمرو تحريكها بالكسر.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٢٤
٢٢٥
قال صاحب "الكشاف" ﴿ذَالِكَ﴾ خبر مبتدأ محذوف أي الأمر والشأن ذلك كما يقدم الكاتب جملة من كلامه في بعض المعاني فإذا أراد الخوض في معنى آخر قال هذا وقد كان كذا، والحرمة ما لا يحل هتكه وجميع ما كلفه الله تعالى بهذه الصفة من مناسك الحج وغيرها يحتمل أن يكون عاماً في جميع تكاليفه، ويحتمل أن يكون خاصاً فيما يتعلق بالحج، وعن زيد بن أسلم الحرمات خمس : الكعبة الحرام والمسجد الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام والمشعر الحرام، وقال المتكلمون ولا تدخل النوافل في حرمات الله تعالى :﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَّه عِندَ رَبِّه ﴾ أي فالتعظيم خير له للعلم بأنه يجب القيام بمراعاتها وحفظها، وقوله :﴿عِندَ رَبِّه ﴾ يدل على الثواب المدخر لأنه لا يقال عند ربه فيما قد حصل من الخيرات، قال الأصم فهو خير له من التهاون بذلك، ثم إنه تعالى عاد إلى بيان حكم الحج فقال :﴿وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الانْعَـامُ﴾ فقد كان يجوز أن يظن أن الإحرام إذا حرم الصيد وغيره فالأنعام أيضاً تحرم فبين الله تعالى أن الإحرام لا يؤثر فيها فهي محللة، واستثنى منه ما يتلى في كتاب الله من المحرمات من النعم وهو المذكور في سورة المائدة، وهو قوله تعالى :﴿غَيْرَ مُحِلِّى الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ﴾ وقوله :﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ﴾ وقوله :﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ (الأنعام : ١٢١)، ثم إنه سبحانه لما حث على تعظيم حرماته وحمد من يعظمها أتبعه بالأمر باجتناب الأوثان وقول الزور. لأن توحيد الله تعالى وصدق القول أعظم الخيرات، وإنما جمع الشرك وقول الزور في سلك واحد لأن الشرك من باب الزور، لأن المشرك زاعم أن الوثن تحق له العبادة فكأنه قال فاجتنبوا عبادة الأوثان التي هي رأس الزور، واجتنبوا قول الزور كله، ولا تقربوا منه شيئاً لتماديه في القبح والسماجة، وما ظنك بشيء من قبيله عبادة الأوثان وسمى الأوثان رجساً لا للنجاسة، لكن لأن وجوب تجنبها أوكد من وجوب تجنب الرجس ولأن عبادتها أعظم من التلوث بالنجاسات. ثم قال الأصم إنما وصفها بذلك لأن عادتهم في المتقربات أن يتعمدوا سقوط الدماء عليها وهذا بعيد وقيل إنه إنما وصفها بذلك استحقاراً واستخفافاً وهذا أقرب، وقوله :
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٢٥
﴿مِنَ الاوْثَـانِ﴾ بيان للرجس وتمييز له كقوله عندي عشرون من الدراهم لأن الرجس لما فيه من الإيهام يتناول كل شيء، فكأنه قال فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان، وليس المراد أن بعضها ليس كذلك، والزور من الزور والإزورار وهو الانحراف، كما أن الأفك من أفكه إذا صرفه، والمفسرون ذكروا في قول الزور / وجوهاً : أحدها : أنه قولهم هذا حلال وهذا حرام وما أشبه ذلك من افترائهم وثانيها : شهادة الزور عن النبي صلى الله عليه وسلّم :"أنه صلى الصبح فلما سلم قام قائماً واستقبل الناس بوجهه وقال عدلت شهادة الزور الإشراك بالله" وتلا هذه الآية وثالثها : الكذب والبهتان ورابعها : قول أهل الجاهلية في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك.


الصفحة التالية
Icon