أما قوله تعالى :﴿فَإِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ﴾ ففي كيفية النظم وجهان : أحدهما : أن الإله واحد وإنما اختلفت التكاليف باختلاف الأزمنة والأشخاص لاختلاف المصالح الثاني :﴿فَإِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ﴾ فلا تذكروا على ذبائحكم غير اسم الله ﴿فَلَه ا أَسْلِمُوا ﴾ أي اخلصوا له الذكر خاصة بحيث لا يشوبه إشراك ألبتة، والمراد الانقياد لله تعالى في جميع تكاليفه، ومن انقاد له كان مخبتاً فلذلك قال بعده ﴿وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ﴾ والمخبت المتواضع الخاشع. قال أبو مسلم : حقيقة المخبت من صار في خبت من الأرض، يقال أخبت الرجل إذا صار في الخبت كما يقال أنجد وأشأم وأتهم، والخبت هو المطمئن من الأرض. وللمفسرين فيه عبارات أحدها : المخبتين المتواضعين عن ابن عباس وقتادة وثانيها : المجتهدين في العبادة عن الكلبي وثالثها : المخلصين عن مقاتل ورابعها : الطمئنين إلى ذكر الله تعالى والصالحين عن مجاهد وخامسها : هم الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا عن عمرو بن أوس.
ثم وصفهم الله تعالى بقوله :﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ فيظهر عليهم الخوف من عقاب الله تعالى والخشوع والتواضع لله، ثم لذلك الوجل أثران أحدهما : الصبر على المكاره وذلك هو المراد بقوله :﴿وَالصَّـابِرِينَ عَلَى مَآ أَصَابَهُمْ﴾ وعلى ما يكون من قبل الله تعالى، لأنه الذي يجب الصبر عليه كالأمراض والمحن والمصائب. فأما ما يصيبهم من قبل الظلمة فالصبر عليه غير واجب بل إن أمكنه دفع ذلك لزمه الدفع ولو بالمقاتلة والثاني : الاشتغال بالخدمة وأعز الأشياء عند الإنسان نفسه وماله. أما الخدمة بالنفس فهي الصلاة، وهو المراد بقوله :﴿الَّذِينَ إِذَآ﴾ وأما الخدمة بالمال فهو المراد من قوله :﴿وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ قرأ الحسن ﴿الَّذِينَ إِذَآ﴾ بالنصب على تقدير النون، وقرأ ابن مسعود والمقيمين الصلاة على الأصل.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٢٧
٢٣١
اعلم أن قوله تعالى :﴿وَالْبُدْنَ﴾ فيه مسائل :
المسألة الأولى : البدن جمع بدنة كخشب وخشبة، سميت بذلك إذا أهديت للحرم لعظم بدنها وهي الإبل خاصة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ألحق البقر بالإبل حين قال :"البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة" ولأنه قال :﴿فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا﴾ وهذا يختص بالإبل فإنها تنحر قائمة دون البقر، وقال قوم البدن الإبل والبقر التي يتقرب بها إلى الله تعالى في الحج والعمرة، لأنه إنما سمى بذلك لعظم البدن فالأولى دخولها فيه، أما الشاة فلا تدخل وإن كانت تجوز في النسك لأنها صغيرة الجسم فلا تسمى بدنة.
المسألة الثانية : قرأ الحسن والبدن بضمتين كثمر في جمع ثمرة، وابن أبي إسحق بالضمتين وتشديد النون على لفظ الوقف، وقرىء بالنصب والرفع كقوله :﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَـاهُ مَنَازِلَ﴾ والله أعلم.
المسألة الثالثة : إذا قال لله على بدنة، هل يجوز له نحرها في غير مكة ؟
قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله يجوز، وقال أبو يوسف رحمه الله لا يجوز إلا بمكة واتفقوا فيمن نذر هدياً أن عليه ذبحه بمكة، ولو قال : لله على جزور، أنه يذبحه حيث شاء، وقال أبو حنيفة رحمه الله البدنة بمنزلة الجزور فوجب أن يجوز له نحرها حيث يشاء بخلاف الهدى فإنه تعالى قال :﴿هَدْيَا بَـالِغَ الْكَعْبَةِ﴾ (يس : ٣٩) فجعل بلوغ الكعبة من صفة الهدى، واحتج أبو يوسف رحمه الله بقوله تعالى :﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَـاهَا لَكُم مِّن شَعَـا اـاِرِ اللَّهِ﴾ فكان اسم البدنة يفيد كونها قربة فكان كاسم الهدى، أجاب أبو حنيفة رحمه الله / بأنه ليس كل ما كان ذبحه قربة اختص بالحرم فإن الأضحية قربة وهي جائزة في سائر الأماكن.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٣١


الصفحة التالية
Icon