﴿وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَـانٍ إِلا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلا تَلُومُونِى وَلُومُوا أَنفُسَكُمْ ﴾ (إبراهيم : ٢٢) وقال تعالى :﴿إِنَّه لَيْسَ لَه سُلْطَـانٌ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَـانُه عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَه ﴾ (النحل : ٩٩، ١٠٠) وقال :﴿إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ (الحجر : ٤٠) ولا شك أنه عليه السلام كان سيد المخلصين أما الوجه الثالث : وهو أنه عليه السلام تكلم بذلك اختياراً فههنا وجهان : أحدهما : أن نقول إن هذه الكلمة باطلة والثاني : أن نقول إنها ليست كلمة باطلة أما على الوجه الأول فذكروا فيه طريقين : الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء إن شيطاناً يقال له الأبيض أتاه على صورة جبريل عليه السلام وألقى عليه هذه الكلمة فقرأها فلما سمع المشركون ذلك أعجبهم فجاء جبريل عليه السلام فاستعرضه فقرأها فلما بلغ إلى تلك الكلمة قال جبريل عليه السلام أنا ما جئتك بهذه قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم إنه أتاني آت على صورتك فألقاها على لساني الطريق الثاني : قال بعض الجهال إنه عليه السلام لشدة حرصه على إيمان القوم أدخل هذه الكلمة من عند نفسه ثم رجع عنها، وهذان القولان لا يرغب فيهما مسلم ألبتة لأن الأول يقتضي أنه عليه السلام ما كان يميز بين الملك المعصوم والشيطان الخبيث والثاني يقتضي أنه كان خائناً في الوحي وكل واحد منهما خروج عن الدين أما الوجه الثاني : وهو أن هذه الكلمة ليست باطلة فههنا أيضاً طرق الأول : أن يقال الغرانيق هم الملائكة وقد كان ذلك قرآناً منزلاً في وصف الملائكة. فلما توهم المشركون أنه يريد آلهتهم نسخ الله تلاوته الثاني : أن يقال المراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار، فكأنه قال : أشفاعتهن ترتجى ؟
الثالث : أن يقال إنه ذكر الإثبات وأراد النفي كقوله تعالى :﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا ﴾ (النساء : ١٧٦) أي لا تضلوا كما قد يذكر النفي ويريد به الإثبات كقوله تعالى :﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُم أَلا تُشْرِكُوا بِه شَيْـاًا ﴾ (الأنعام : ١٥١) والمعنى أن تشركوا، وهذان الوجهان الأخيران يعترض عليهما بأنه لو جاز ذلك بناء على هذا التأويل فلم لا يجوز أن يظهروا كلمة الكفر في جملة القرآن أو في الصلاة بناء على هذا التأويل، ولكن الأصل في الدين أن لا يجوز عليهم شيء من ذلك لأن الله تعالى قد نصبهم حجة واصطفاهم للرسالة فلا يجوز عليهم ما يطعن في ذلك أو ينفر، ومثل ذلك في التنفير أعظم من الأمور التي حثه الله تعالى على تركها كنحو الفظاظة والكتابة وقول الشعر فهذه الوجوه المذكورة / في قوله تلك الغرانيق العلا قد طهر على القطع كذبها، فهذا كله إذا فسرنا التمني بالتلاوة. وأما إذا فسرناها بالخاطر وتمنى القلب فالمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلّم متى تمنى بعض ما يتمناه من الأمور يوسوس الشيطان إليه بالباطل ويدعوه إلى ما لا ينبغي ثم إن الله تعالى ينسخ ذلك ويبطله ويهديه إلى ترك الالتفات إلى وسوسته، ثم اختلفوا في كيفية تلك الوسوسة على وجوه : أحدها : أنه يتمنى ما يتقرب به إلى المشركين من ذكر آلهتهم بالثناء قالوا إنه عليه السلام كان يحب أن يتألفهم وكان يردد ذلك في نفسه فعندما لحقه النعاس زاد تلك الزيادة من حيث كانت في نفسه وهذا أيضاً خروج عن الدين وبيانه ما تقدم وثانيها : ما قال مجاهد من أنه عليه السلام كان يتمنى إنزال الوحي عليه على سرعة دون تأخير فنسخ الله ذلك بأن عرفه بأن إنزال ذلك بحسب المصالح في الحوادث والنوازل وغيرها وثالثها : يحتمل أنه عليه السلام عند نزول الوحي كان يتفكر في تأويله إن كان مجملاً فيلقى الشيطان في جملته ما لم يرده، فبين تعالى أنه ينسخ ذلك بالإبطال ويحكم ما أراده الله تعالى بأدلته وآياته ورابعها : معنى الآية إذا تمنى إذا أراد فعلاً مقرباً إلى الله تعالى ألقى الشيطان في فكره ما يخالفه فيرجع إلى الله تعالى في ذلك وهو كقوله تعالى :
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٤٦
﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَـا اـاِفٌ مِّنَ الشَّيْطَـانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾ (الأعراف : ٢٠١) وكقوله :﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَـانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّه ﴾ (الأعراف : ٢٠٠) ومن الناس من قال لا يجوز حمل الأمنية على تمني القلب لأنه لو كان كذلك لم يكن ما يخطر ببال رسول الله صلى الله عليه وسلّم فتنة للكفار وذلك يبطله قوله تعالى :﴿لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشَّيْطَـانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ﴾، والجواب : لا يبعد أنه إذا قوي التمني اشتغل الخاطر به فحصل السهو في الأفعال الظاهرة بسببه فيصير ذلك فتنة للكفار فهذا آخر القول في هذه المسألة.


الصفحة التالية
Icon