أما قوله تعالى :﴿حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً﴾ أي فجأة من دون أن يشعروا ثم جعل الساعة غاية لكفرهم، وأنهم يؤمنون عند أشراط الساعة على وجه الإلجاء. واختلف في المراد باليوم العقيم / وفيه قولان : أحدهما : أنه يوم بدر وإنما وصف يوم الحرب بالعقيم لوجوه أربعة : أحدها : أن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كأنهن عقم لم يلدن وثانيها : أن المقاتلين يقال لهم أبناء الحرب فإذا قتلوا وصف يوم الحرب بالعقيم على سبيل المجاز وثالثها : هو الذي لا خير فيه يقال ريح عقيم إذا لم تنشىء مطراً ولم تلقح شجراً ورابعها : أنه لا مثل له في عظم أمره، وذلك لقتال الملائكة فيه القول الثاني : أنه يوم القيامة، وإنما وصف بالعقيم لوجوه : أحدها : أنهم لا يرون فيه خيراً وثانيها : أنه لا ليل فيه فيستمر كاستمرار المرأة على تعطل الولادة وثالثها : أن كل ذات حمل تضع حملها في ذلك اليوم فكيف يحصل الحمل فيه، وهذا القول أولى لأنه لا يجوز أن يقول الله تعالى ﴿وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ ويكون المراد يوم بدر، لأن من المعلوم أنهم في مرية بعد يوم بدر، فإن قيل لما ذكر الساعة. فلو حملتم اليوم العقيم على يوم القيامة لزم التكرار ؛ قلنا ليس كذلك لأن الساعة من مقدمات القيامة واليوم العقيم هو نفس ذلك اليوم، وعلى أن الأمر لو كان كما قاله لم يكن تكراراً لأن في الأول ذكر الساعة، وفي الثاني ذكر عذاب ذلك اليوم، ويحتمل أن يكون المراد بالساعة وقت موت كل أحد وبعذاب يوم عقيم القيامة.
أما قوله :﴿الْمُلْكُ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلَّهِ﴾ فمن أقوى ما يدل على أن اليوم العقيم هو ذلك اليوم وأراد بذلك أنه لا مالك في ذلك اليوم سواه فهو بخلاف أيام الدنيا التي ملك الله الأمور غيره، وبين أنه الحاكم بينهم لا حاكم سواه وذلك زجر عن معصيته ثم بين كيف يحكم بينهم، وأنه يصير المؤمنين إلى جنات النعيم، والكافرين في العذاب المهين، وقد تقدم وصف الجنة والنار فإن قيل التنوين في يومئذ عن أي جملة ينوب ؟
قلنا تقديره : الملك يوم يؤمنون أو يوم تزول مريتهم لقوله تعالى :﴿وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ﴾.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٤٦
٢٤٨
اعلم أنه تعالى لما ذكر أن الملك له يوم القيامة وأنه يحكم بينهم ويدخل المؤمنين الجنات أتبعه بذكر وعده الكريم للمهاجرين، وأفردهم بالذكر تفخيماً لشأنهم فقال عز من قائل ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا ﴾ واختلفوا فيمن أريد بذلك، فقال بعضهم من هاجر إلى المدينة طالباً لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلّم وتقرباً إلى الله تعالى، وقال آخرون بل المراد من جاهد فخرج مع الرسول صلى الله عليه وسلّم أو في سراياه لنصرة الدين ولذلك ذكر القتل بعده، ومنهم من حمله على الأمرين. واختلفوا من وجه آخر فقال قوم المراد قوم مخصوصون، روى مجاهد أنها نزلت في طوائف خرجوا من مكة إلى المدينة للهجرة فتبعهم المشركون فقاتلوهم، وظاهر الكلام للعموم. ثم إنه سبحانه وتعالى وصفهم برزقهم ومسكنهم، أما الرزق فقوله تعالى :﴿لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لا شبهة في أن الرزق الحسن هو نعيم الجنة، وقال الأصم إنه العلم والفهم كقول شعيب عليه السلام ﴿وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ﴾ (هود : ٨٨) فهذا في الدنيا وفي الآخرة الجنة، وقال الكلبي رزقاً حسناً حلالاً وهو الغنيمة وهذان الوجهان ضعيفان، لأنه تعالى جعله جزاء على هجرتهم في سبيل الله بعد القتل والموت وبعدهما لا يكون إلا نعيم الجنة.
المسألة الثانية : لا بد من شرط اجتناب الكبائر في كل وعد في القرآن لأن هذا المهاجر لو ارتكب كبيرة لكان حكمه في المشيئة على قولنا، ولخرج عن أن يكون أهلاً للجنة قطعاً على قول المعتزلة. فإن قيل فما فضله على سائر المؤمنين في الوعد إن كان كما قلتم ؟
قلنا فضلهم يظهر لأن ثوابهم أعظم وقد قال تعالى :﴿لا يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَـاتَلَ ﴾ (الحديد : ١٠) فمعلوم أن من هاجر مع الرسول صلى الله عليه وسلّم وفارق دياره وأهله لتقويته ونصرة دينه مع شدة قوة الكفار وطهور صولتهم صار فعله كالسبب لقوة الدين، وعلى هذا الوجه عظم محل الأنصار حتى صار ذكرهم والثناء عليهم تالياً لذكر المهاجرين لما آووه ونصروه.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٤٨


الصفحة التالية
Icon