الدلالة السادسة : قوله :﴿وَهُوَ الَّذِى أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُم إِنَّ الانسَـانَ لَكَفُورٌ﴾ والمعنى أن من سخر له هذه الأمور، وأنعم عليه بها فهو الذي أحياه فنبه بالإحياء الأول على إنعام الدنيا علينا بكل ما تقدم. ونبه بالإماتة والإحياء الثاني على نعم الدين علينا، فإنه سبحانه وتعالى خلق الدنيا بسائر أحوالها للآخرة وإلا لم يكن للنعم على هذا الوجه معنى. يبين ذلك أنه لولا أمر الآخرة لم يكن للزراعات وتكلفها ولا لركوب الحيوانات وذبحها إلى غير ذلك معنى، بل كان تعالى يخلقه ابتداء من غير تكلف الزرع والسقي، وإنما أجرى الله العادة بذلك ليعتبر به في باب الدين ولما فصل تعالى هذه النعم قال :﴿إِنَّ الانسَـانَ لَكَفُورٌ﴾ وهذا كما قد يعدد المرء نعمه على ولده، ثم يقول إن الولد لكفور لنعم الوالد زجراً له عن الكفران وبعثاً له على الشكر، فلذلك أورد تعالى ذلك في الكفار، فبين أنهم دفعوا هذه النعم وكفروا بها وجهلوا خالقها مع وضوح أمرها ونظيره قوله تعالى :﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ﴾ (سبأ : ١٣) وقال ابن عباس رضي الله عنهما الإنسان ههنا هو الكافر، وقال أيضاً هو الأسود بن عبد الأسد وأبو جهل والعاص وأبي بن خلف، والأولى تعميمه في كل المنكرين.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٤٩
٢٥١
اعلم أنه تعالى لما قدم ذكر نعمه وبين أنه رؤوف رحيم بعباده وإن كان منهم من يكفر ولا يشكر، أتبعه بذكر نعمه بما كلف فقال :﴿لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوه ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : إنما حذف الواو في قوله :﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ﴾ لأنه لا تعلق لهذا الكلام بما قبله فلا جرم حذف العاطف.
المسألة الثانية : في المنسك أقوال : أحدها : قال ابن عباس عيد(اً) يذبحون فيه وثانيها : قرباناً ولفظ المنسك مختص بالذبائح عن مجاهد وثالثها : مألفاً يألفونه إما مكاناً معيناً أو زماناً معيناً لأداء الطاعات ورابعها : المنسك هو الشريعة والمنهاج وهو قول ابن عباس في رواية عطاء واختيار القفال وهو الأقرب لقوله تعالى :﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ (المائدة : ٤٨) ولأن المنسك مأخوذ من النسك وهو العبادة، وإذا وقع الإسم على كل عبادة فلا وجه للتخصيص. فإن قيل هلا حملتموه على الذبح، لأن المنسك في العرف لا يفهم منه إلا الذبح ؟
وهلا حملتموه على موضع العبادة أو على وقتها ؟
الجواب : عن الأول لا نسلم أن المنسك في العرف مخصوص بالذبح، والدليل عليه أن سائر ما يفعل في الحج يوصف بأنه مناسك ولأجله قال عليه السلام :"خذوا عني مناسككم" وعن الثاني : أن قوله :﴿هُمْ نَاسِكُوه ﴾ أليق بالعبادة منه بالوقت والمكان.
المسألة الثالثة : زعم قوم أن المراد من قوله :﴿هُمْ نَاسِكُوه ﴾ من كان في زمن الرسول صلى الله عليه وسلّم متمسكاً بشرع كاليهود والنصارى، ولا يمتنع أن يريد كل من تعبد من الأمم سواء بقيت آثارهم أو لم تبق، لأن قوله :﴿هُمْ نَاسِكُوه ﴾ كالوصف للأمم وإن لم يعبدوا في الحال.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٥١
أما قوله تعالى :﴿فَلا يُنَـازِعُنَّكَ فِى الامْرِ ﴾ فقرىء ﴿فَلا يُنَـازِعُنَّكَ﴾ أي أثبت في دينك ثباتاً لا يطمعون أن يخدعوك ليزيلوك عنه. وأما قوله :﴿فَلا يُنَـازِعُنَّكَ﴾ ففيه قولان : أحدهما : وهو قول الزجاج : أنه نهى لهم عن منازعتهم، كما تقول لا يضاربنك فلان أي لا تضاربه والثاني : أن المراد أن عليهم اتباعك وترك مخالفتك، وقد استقر الأمر الآن على شرعك وعلى أنه ناسخ لكل / ما عداه. فكأنه تعالى نهى كل أمة بقيت منها بقية أن تستمر على تلك العادة، وألزمها أن تتحول إلى اتباع الرسول صلى الله عليه وسلّم فلذلك قال :﴿وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ ﴾ أي لا تخص بالدعاء أمة دون أمة فكلهم أمتك فادعهم إلى شريعتك فإنك على هدى مستقيم، والهدى يحتمل نفس الدين ويحتمل أدلة الدين وهو أولى. كأنه قال ادعهم إلى هذا الدين فإنك من حيث الدلالة على طريقة واضحة ولهذا قال :﴿وَإِن جَـادَلُوكَ﴾ والمعنى فإن عدلوا عن النظر في هذه الأدلة إلى طريقة المراء والتمسك بالعادة فقد بينت وأظهرت ما يلزمك ﴿فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ لأنه ليس بعد إيضاح الأدلة إلا هذا الجنس الذي يجري مجرى الوعيد والتحذير من حكم يوم القيامة الذي يتردد بين جنة وثواب لمن قبل، وبين نار وعقاب لمن رد وأنكر. فقال :﴿اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ فتعرفون حينئذ الحق من الباطل والله أعلم.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٥١
٢٥٣


الصفحة التالية
Icon