الموجب الثاني : لقبول التكليف قوله :﴿مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَا هُوَ سَمَّـاـاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ﴾ وفي نصب الملة وجهان : أحدهما : وهو قول الفراء أنها منصوبة بمضمون ما تقدمها كأنه قيل وسع دينكم توسعة ملة أبيكم إبراهيم، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه والثاني : أن يكون منصوباً على المدح والتعظيم أي أعني بالدين ملة أبيكم إبراهيم، واعلم أن المقصود من ذكره التنبيه على أن هذه التكاليف والشرائع هي شريعة إبراهيم عليه الصلاة والسلام. والعرب كانوا محبين لإبراهيم عليه السلام لأنهم من أولاده، فكان التنبيه على ذلك كالسبب لصيروتهم منقادين لقبول هذا الدين وههنا سؤالات :
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٥٨
السؤال الأول : لم قال :﴿مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ﴾ ولم يدخل في الخطاب المؤمنون الذين كانوا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلّم ولم يكن من ولده ؟
والجواب : من وجهين : أحدهما : لما كان أكثرهم من ولده كالرسول ورهطه وجميع العرب جاز ذلك وثانيهما : وهو قول الحسن أن الله تعالى جعل حرمة إبراهيم عليه السلام على المسلمين كحرمة الوالد على ولده، ومنه قوله تعالى ﴿النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ﴾ (الأحزاب : ٦) فجعل حرمته كحرمة الوالد على الولد، وحرمة نسائه كحرمة الوالدة على ما قال تعالى :﴿وَأَزْوَاجُه ا أُمَّهَـاتُهُمْ ﴾ (الأحزاب : ٦).
السؤال الثاني : هذا يقتضي أن تكون ملة محمد كملة إبراهيم عليهما السلام سواء، فيكون الرسول ليس له شرع مخصوص ويؤكده قوله تعالى :﴿أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾، الجواب : هذا الكلام إنما وقع مع عبدة الأوثان، فكأنه تعالى قال : عبادة الله وترك الأوثان هي ملة إبراهيم فأما تفاصيل الشرائع فلا تعلق لها بهذا الموضع.
السؤال الثالث : ما معنى قوله تعالى :﴿هُوَ سَمَّـاـاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ﴾ ؟
الجواب : فيه قولان : أحدهما : أن الكناية راجعة إلى إبراهيم عليه السلام، فإن لكل نبي دعوة مستجابة وهو قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام :﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ﴾ (البقرة : ١٢٨) فاستجاب الله تعالى له فجعلها أمة محمد صلى الله عليه وسلّم، وروي أنه عليه الصلاة والسلام أخبر بأن الله تعالى سيبعث محمداً بمثل ملته وأنه ستسمى أمته بالمسلمين والثاني : أن الكناية راجعة إلى الله تعالى في قوله :﴿هُوَ اجْتَبَـاكُمْ﴾ فروى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : إن الله سماكم المسلمين من قبل" أي في كل الكتب، وفي هذا أي في القرآن. وهذا الوجه أقرب لأنه تعالى قال :﴿لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ فبين أنه سماهم بذلك لهذا الغرض وهذا لا يليق إلا بالله، ويدل عليه أيضاً قراءة أبي بن كعب ﴿اللَّهُ سَمْعَكُمْ﴾ والمعنى أنه سبحانه في سائر الكتب المتقدمة على القرآن، وفي القرآن أيضاً بين فضلكم على الأمم وسماكم بهذا الاسم الأكرم، لأجل الشهادة المذكورة. فلما خصكم الله بهذه الكرامة فاعبدوه ولا تردوا تكاليفه. وهذا هو العلة الثالثة : الموجبة لقبول التكليف، وأما الكلام في أنه كيف يكون الرسول شهيداً علينا، وكيف تكون أمته شهداء على الناس ؟
فقد تقدم في سورة البقرة، وبينا أنه أخذ منه ما يدل على أن الإجماع حجة.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٥٨


الصفحة التالية
Icon