المرتبة السابعة : قوله تعالى :﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً﴾ أي خلقاً مبايناً للخلق الأول مباينة / ما أبعدها حيث جعله حيواناً وكان جماداً، وناطقاً وكان أبكم، وسميعاً وكان أصم، وبصيراً وكان أكمه، وأودع باطنه وظاهره بل كل عضو من أعضائه وكل جزء من أجزائه عجائب فطرة وغرائب حكمة لا يحيط بها وصف الواصفين، ولا شرح الشارحين، وروى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : هو تصريف الله إياه بعد الولادة في أطواره في زمن الطفولية وما بعدها إلى استواء الشباب، وخلق الفهم والعقل وما بعده إلى أن يموت، ودليل هذا القول إنه عقبه بقوله :﴿ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَالِكَ لَمَيِّتُونَ﴾ وهذا المعنى مروي أيضاً عن ابن عباس وابن عمر، وإنما قال :﴿أَنشَأْنَـاهُ﴾ لأنه جعل إنشاء الروح فيه، وإتمام خلقه إنشاء له قالوا في الآية دلالة على بطلان قول النظام في أن الإنسان هو الروح لا البدن فإنه سبحانه بين أن الإنسان هو المركب من هذه الصفات، وفيها دلالة أيضاً على بطلان قول الفلاسفة الذين يقولون إن الإنسان شيء لا ينقسم، وإنه ليس بجسم.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٦٩
أما قوله :﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ﴾ أي فتعالى الله فإن البركة يرجع معناها إلى الامتداد والزيادة، وكل ما زاد على الشيء فقد علاه، ويجوز أن يكون المعنى، والبركات والخيرات كلها من الله تعالى، وقيل أصله من البروك وهو الثبات، فكأنه قال والبقاء والدوام. والبركات كلها منه فهو المستحق للتعظيم والثناء، وقوله :﴿أَحْسَنُ الْخَـالِقِينَ﴾ أي أحسن المقدرين تقديراً فترك ذكر المميز لدلالة الخالقين عليه وههنا مسائل :
المسألة الأولى : قالت المعتزلة لولا أن الله تعالى قد يكون خالقاً لفعله إذا قدره لما جاز القول بأنه أحسن الخالقين، كما لو لم يكن في عباده من يحكم ويرحم لم يجز أن يقال فيه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، والخلق في اللغة هو كل فعل وجد من فاعله مقدراً لا على سهو وغفلة، والعباد قد يفعلون ذلك على هذا الوجه، قال الكعبي هذه الآية، وإن دلت على أن العبد خالق إلا أن اسم الخالق لا يطلق على العبد إلا مع القيد كما أنه يجوز أن يقال رب الدار، ولا يجوز أن يقال رب بلا إضافة، ولا يقول العبد لسيده هو ربي، ولا يقال إنما قال الله تعالى ذلك لأنه سبحانه وصف عيسى عليه السلام بأنه يخلق من الطين كهيئة الطير لأنا نجيب عنه من وجهين : أحدهما : إن ظاهر الآية يقتضي أنه سبحانه ﴿أَحْسَنُ الْخَـالِقِينَ﴾ الذين هم جمع فحمله على عيسى خاصة لا يصح الثاني : أنه إذا صح وصف عيسى بأنه يخلق صح وصف غيره من المصورين أيضاً بأنه يخلق ؟
وأجاب أصحابنا بأن هذه الآية معارضة بقول الله تعالى :﴿اللَّهُ خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ﴾ (الزمر : ٦٢) فوجب حمل هذه الآية على أنه ﴿أَحْسَنُ الْخَـالِقِينَ﴾ في اعتقادكم وظنكم، كقوله تعالى :﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه ﴾ (الروم : ٢٧) أي هو أهون عليه في اعقتادكم وظنكم والجواب الثاني : هو أن الخالق هو المقدر لأن الخلق هو التقدير والآية تدل على أنه سبحانه أحسن المقدرين، والتقدير يرجع معناه إلى الطن والحسبان، وذلك في حق الله سبحانه محال، فتكون الآية من المتشابهات والجواب الثالث : أن الآية تقتضي / كون العبد خالقاً بمعنى كونه مقدراً، لكن لم قلت بأنه خالق بمعنى كونه موجداً.
المسألة الثانية : قالت المعتزلة الآية تدل على أن كل ما خلقه حسن وحكمة وصواب وإلا لما جاز وصفه بأنه أحسن الخالقين، وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون خالقاً للكفر والمعصية فوجب أن يكون العبد هو الموجد لهما ؟
والجواب : من الناس من حمل الحسن على الإحكام والاتقان في التركيب والتأليف، ثم لو حملناه على ما قالوه فعندنا أنه يحسن من الله تعالى كل الأشياء لأنه ليس فوقه أمر ونهي حتى يكون ذلك مانعاً له عن فعل شيء.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٦٩


الصفحة التالية
Icon