جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٧٠
أما قوله تعالى :﴿وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ﴾ فهو عطف على جنات وقرئت مرفوعة على الابتداء أي ومما أنشأنا لكم شجرة، قال صاحب "الكشاف" طور سيناء وطور سينين لا يخلو إما أن يضاف فيه الطور إلى بقعة اسمها سيناء وسينون، وإما أن يكون اسماً للجبل مركباً من مضاف ومضاف إليه كامرىء القيس وبعلبك فيمن أضاف، فمن كسر سين سيناء فقد منع الصرف للتعريف والعجمة أو التأنيث لأنها بقعة وفعلاء لا يكون ألفه للتأنيث كعلباء وحرباء/ ومن فتح لم يصرفه لأن ألفه للتأنيث كصحراء، وقيل هو جبل فلسطين وقيل بين مصر وأيلة، ومنه نودي موسى عليه السلام وقرأ الأعمش سينا على القصر.
أما قوله تعالى :﴿تَنابُتُ بِالدُّهْنِ﴾ فهو في موضع الحل أي تنبت وفيها الدهن، كما يقال ركب الأمير بجنده، أي ومعه الجند وقرىء تنبت وفيه وجهان : أحدهما : أن أنبت بمعنى نبت قال زهير :
ف رأيت ذوي لحاجات حول بيوتهم
قطيناً لهم حتى إذا أنبت البقل
والثاني : أن مفعوله محذوف، أي تنبت زيتونها وفيه الزيت، قال المفسرون : وإنما أضافها الله تعالى إلى هذا الجبل لأن منها تشعبت في البلاد وانتشرت ولأن معظمها هناك. أما قوله :/ ﴿وَصِبْغٍ لِّلاكِلِينَ﴾ فعطف على الدهن، أي إدام للآكلين، والصبغ والصباغ ما يصطبغ به، أي يصبغ به الخبز، وجملة القول أنه سبحانه وتعالى نبه على إحسانه بهذه الشجرة، لأنها تخرج هذه الثمرة التي يكثر بها الانتفاع وهي طرية ومدخرة، وبأن تعصر فيظهر الزيت منها ويعظم وجوه الانتفاع به.
النوع الرابع : الاستدلال بأحوال الحيوانات.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٧٠
٢٧٢
اعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر أن فيها عبرة مجملاً ثم أردفه بالتفصيل من أربعة أوجه : أحدها : قوله :﴿نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِى بُطُونِهَا﴾ والمراد منه جميع وجوه الانتفاع بألبانها، ووجه الاعتبار فيه أنها تجتمع في الضروع وتتخلص من بين الفرث والدم بإذن الله تعالى، فتستحيل إلى طهارة وإلى لون وطعم موافق للشهوة وتصير غذاء، فمن استدل بذلك على قدرة الله وحكمته. كان ذلك معدوداً في النعم الدينية ومن انتفع به فهو في نعمة الدنيا، وأيضاً فهذه الألبان التي تخرج من بطونها إلى ضروعها تجدها شراباً طيباً، وإذا ذبحتها لم تجد لها أثراً، وذلك يدل على عظيم قدرة الله تعالى. قال صاحب "الكشاف" وقرىء تسقيكم بتاء مفتوحة، أي تسقيكم الأنعام وثانيها : قوله :﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَنَـافِعُ كَثِيرَةٌ﴾ وذلك بيعها والانتفاع بأثمانها وما يجري مجرى ذلك وثالثها : قوله :﴿وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ يعني كما تنتفعون بها وهي حية تنتفعون بها بعد الذبح أيضاً بالأكل ورابعها : قوله :﴿وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ﴾ لأن وجه الانتفاع بالإبل في المحمولات على البر بمنزلة الانتفاع بالفلك في البحر، ولذلك جمع بين الوجهين في إنعامه لكي يشكر على ذلك ويستدل به، واعلم أنه سبحانه وتعالى لما بين دلائل التوحيد أردفها بالقصص كما هو العادة في سائر السور وهي ههنا.
القصة الأولى قصة نوح عليه السلام
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٧٢
٢٧٤
قال قوم : إن نوحاً كان اسمه يشكر، ثم سمي نوحاً لوجوه : أحدها : لكثرة ما ناح على نفسه حين دعا على قومه بالهلاك، فأهلكهم بالطوفان فندم على ذلك وثانيها : لمراجعة ربه في شأن ابنه وثالثها : أنه مر بكلب مجذوم، فقال له إخساً يا قبيح، فعوتب على ذلك، فقال الله له : أعبتني إذ خلقته، أم عبت الكلب. وهذه الوجوه مشكلة لما ثبت أن الأعلام لا تفيد صفة في المسمى.
أما قوله :﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ فالمعنى أنه سبحانه أرسله بالدعاء إلى عبادة الله تعالى وحده، ولا يجوز أن يدعوهم إلى ذلك إلا وقد دعاهم إلى معرفته أولاً، لأن عبادة من لا يكون معلوماً غير جائزة وإنما يجوز ويجب بعد المعرفة.
أما قوله :﴿مَا لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُه ا ﴾ فالمراد أن عبادة غير الله لا تجوز إذ لا إله سواه. ومن حق العبادة أن تحسن لمن أنعم بالخلق والإحياء وما بعدهما، فإذا لم يصح ذلك إلا منه تعالى فكيف يعبد ما لا يضر ولا ينفع ؟
وقرىء غيره بالرفع على المحل وبالجر على اللفظ، ثم إنه لما لم ينفع فيهم هذا الدعاء واستمروا على عبادة غير الله تعالى حذرهم بقوله :﴿أَفَلا تَتَّقُونَ﴾ لأن ذلك زجر ووعيد باتقاء العقوبة لينصرفوا عما هم عليه. ثم إنه سبحانه حكى عنهم شبههم في إنكار نبوة نوح عليه السلام.


الصفحة التالية
Icon