واعلم أن ذلك الرسول لما يئس من قبول الأكابر والأصاغر فزع إلى ربه وقال :﴿رَبِّ انصُرْنِى بِمَا كَذَّبُونِ﴾ وقد تقدم تفسيره فأجابه الله تعالى فيما سأل وقال :﴿عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَـادِمِينَ﴾ (المؤمنون : ٤٠) / والأقرب أن يكون المراد بأن يظهر لهم علامات الهلاك/ فعند ذلك يحصل منهم الحسرة والندامة على ترك القبول، ويكون الوقت وقت إيمان اليأس فلا ينتفعون بالندامة، وبين تعالى الهلاك الذي أنزله عليهم بقوله :﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ﴾ وذكروا في الصيحة وجوهاً : أحدها : أن جبريل عليه السلام صاح بهم، وكانت الصيحة عظيمة فماتوا عندها وثانيها : الصيحة هي الرجفة عن ابن عباس رضي الله عنهما وثالثها : الصيحة هي نفس العذاب والموت كما يقال فيمن يموت : دعي فأجاب عن الحسن ورابعها : أنه العذاب المصطلم، قال الشاعر :
صاخ الزمان بآل برمك صيحة
خروا لشدتها على الأذقان
والأول أولى لأنه هو الحقيقة.
وأما قوله :﴿بِالْحَقِّ﴾ فمعناه أنه دمرهم بالعدل من قولك، فلان يقضي بالحق إذا كان عادلاً في قضاياه. وقال المفضل : بالحق أي بما لا يدفع، كقوله :﴿وَجَآءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ﴾.
أما قوله :﴿فَجَعَلْنَـاهُمْ غُثَآءً ﴾ فالغثاء حميل السيل مما بلي واسود من الورق والعيدان، ومنه قوله تعالى :﴿فَجَعَلَه غُثَآءً أَحْوَى ﴾.
وأما قوله تعالى :﴿فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ﴾ ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قوله :﴿بُعْدًا﴾ وسحقاً ودمراً ونحوها مصادر موضوعة مواضع أفعالها، وهي من جملة المصادر التي قال سيبويه نصبت بأفعال لا يستعمل إظهارها ومعنى بعداً بعدوا، أي هلكوا يقال بعد بعداً وبعداً بفتح العين نحو رشد رشداً ورشداً بفتح الشين والله أعلم.
المسألة الثانية : قوله :﴿بُعْدًا﴾ بمنزلة اللعن الذي هو التبعيد من الخير، والله تعالى ذكر ذلك على وجه الاستخفاف والإهانة لهم، وقد نزل بهم العذاب دالاً بذلك على أن الذي ينزل بهم في الآخرة من البعد من النعيم والثواب أعظم مما حل بهم حالاً ليكون ذلك عبرة لمن يجيء بعدهم.
القصة الثالثة
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٧٨
٢٧٩
اعلم أنه سبحانه يقص القصص في القرآن تارة على سبيل التفصيل كما تقدم وأخرى على سبيل الإجمال كههنا، وقيل المراد قصة لوط وشعيب وأيوب ويوسف عليهم السلام.
فأما قوله :﴿ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنا بَعْدِهِمْ قُرُونًا ءَاخَرِينَ﴾ فالمعنى أنه ما أخلى الديار من مكلفين أنشأهم وبلغهم حد التكليف حتى قاموا مقام من كان قبلهم في عمارة الدنيا.
أما قوله :﴿مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَـاْخِرُونَ﴾ فيحتمل في هذا الأجل أن يكون المراد آجال حياتها وتكليفها، ويحتمل آجال موتها وهلاكها، وإن كان الأظهر في الأجل إذا أطلق أن يراد به وقت الموت، فبين أن كل أمة لها آجال مكتوبة في الحياة والموت، لا يتقدم ولا يتأخر، منبهاً بذلك على أنه عالم بالأشياء قبل كونها، فلا توجد إلا على وفق العلم، ونظيره قوله تعالى :﴿إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَآءَ لا يُؤَخَّرُا لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ وههنا مسألتان :
المسألة الأولى : قال أصحابنا : هذه الآية تدل على أن المقتول ميت بأجله إذ لو قتل قبل أجله لكان قد تقدم الأجل أو تأخر، وذلك ينافيه هذا النص.
المسألة الثانية : قال الكعبي : المراد من قوله :﴿مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ﴾ أي لا يتقدمون الوقت المؤقت لعذابهم إن لم يؤمنوا ولا يتأخرون عنه، ولا يستأصلهم إلا إذا علم منهم أنهم لا يزدادون إلا عناداً وأنهم لا يلدون مؤمناً، وأنه لا نفع في بقائهم لغيرهم، ولا ضرر على أحد في هلاكهم، وهو كقول نوح عليه السلام :﴿إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ (نوح : ٢٧).
أما قوله تعالى :﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا﴾ فالمعنى أنه كما أنشأنا بعضهم بعد بعض أرسل إليهم الرسل على هذا الحد قرأ ابن كثير تترى منونة والباقون بغير تنوين وهو اختيار أكثر أهل اللغة لأنها فعلى من المواترة وهي المتابعة وفعلى لا ينون كالدعوى والتقوى والتاء بدل من الواو فإنه مأخوذ من الوتر وهو الفرد، قال الواحدي تترى على القراءتين مصدر أو اسم أقيم مقام الحال لأن المعنى متواترة.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٧٩
أما قوله تعالى :﴿كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوه ﴾ (المؤمنون : ٤٤) يعني أنهم سلكوا في تكذيب أنبيائهم مسلك من تقدم ذكره ممن أهلكه الله بالغرق والصيحة فلذلك قال :﴿فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًا﴾ أي بالهلاك.
(وقوله) :﴿وَجَعَلْنَـاهُمْ أَحَادِيثَ ﴾ يمكن أن يكون المراد جمع الحديث ومنه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمعنى أنه سبحانه بلغ في إهلاكهم مبلغاً صاروا معه أحاديث فلا يرى منهم عين ولا أثر ولم يبق منهم إلا الحديث الذي يذكر ويعتبر به.


الصفحة التالية
Icon