فبين أن القول الذي هو القرآن كان معروفاً لهم وقد مكنوا من التأمل فيه من حيث كان مبايناً لكلام العرب في الفصاحة، ومبرأ عن التناقض في طول عمره، ومن حيث ينبه على ما يلزمهم من معرفة الصانع ومعرفة الوحدانية فل لا يتدبرون فيه ليتركوا الباطل ويرجعوا إلى الحق وثانيها : أن يعتقدوا أن مجيء الرسل أمر على خلاف العادة وهو المراد من قوله :﴿مُسْتَكْبِرِينَ بِه سَـامِرًا تَهْجُرُونَ * أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ﴾ وذلك لأنهم عرفوا بالتواتر أن الرسل كانت تتواتر على الأمم وتظهر المعجزات عليها وكانت الأمم بين مصدق ناج، وبين مكذب هالك بعذاب الاستئصال أفما دعاهم ذلك إلى تصديق الرسول وثالثها : أن لا يكونوا عالمين بديانته وحسن خصاله قبل ادعائه للنبوة وهو المراد من قوله :﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَه مُنكِرُونَ﴾ نبه سبحانه بذلك على أنهم عرفوا منه قبل ادعائه الرسالة كونه في نهاية الأمانة والصدق وغاية الفرار من الكذب والأخلاق الذميمة فكيف كذبوه بعد أن اتفقت كلمتهم على تسميته بالأمين ورابعها : أن يعتقدوا فيه الجنون فيقولون إنما حمله على ادعائه الرسالة جنونه وهو المراد من قوله :﴿أَمْ يَقُولُونَ بِه جِنَّة ﴾ وهذا أيضاً ظاهر الفساد لأنهم كانوا يعلمون بالضرورة أنه أعفل الناس/ والمجنون كيف يمكنه أن يأتي بمثل ما أتى به من الدلائل القاطعة والشرائع الكاملة، ولقد كان من المبغضين له عليه السلام من سماه بذلك وفيه وجهان : أحدهما : أنهم نسبوه إلى ذلك من حيث كان يطمع في انقيادهم له وكان ذلك من أبعد الأمور عندهم فنسبوه إلى الجنون لذلك والثاني : أنهم قالوا ذلك إيهاماً لعوامهم لكي لا ينقادوا له فأوردوا ذلك مورد الاستحقار له. ثم إنه سبحانه بعد أن عد هذه الوجوه، ونبه على فسادها قال :﴿بَلْ جَآءَهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَـارِهُونَ﴾ من حيث تمسكوا بالتقليد ومن حيث علموا أنهم لو أقروا بمحمد صلى الله عليه وسلّم لزالت مناصبهم ولاختلت رياساتهم فلذلك كرهوه فإن قيل قوله :﴿وَأَكْثَرُهُمْ﴾ فيه دليل على أن أقلهم لا يكرهون الحق، قلنا كان فيهم من يترك الإيمان أنفة من توبيخ قومه وأن / يقولوا ترك دين آبائه لا كراهة للحق كما حكى عن أبي طالب ثم بين سبحانه أن الحق لا يتبع الهوى، بل الواجب على المكلف أن يطرح الهوى ويتبع الحق فبين سبحانه أن اتباع الهوى يؤدي إلى الفساد العظيم فقال :﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَـاوَاتُ وَالارْضُ وَمَن فِيهِنَّ ﴾ وفي تفسيره وجوه : الأول : أن القوم كانوا يرون أن الحق في اتخاذ آلهة مع الله تعالى، لكن لو صح ذلك لوقع الفساد في السموات والأرض على ما قررناه في دليل التمانع في قوله :﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾ (الأنبياء : ٢٢) والثاني : أن أهواءهم في عبادة الأوثان وتكذيب محمد صلى الله عليه وسلّم وهما منشأ المفسدة، والحق هو الإسلام. فلو اتبع الإسلام قولهم لعلم الله حصول المفاسد عند بقاء هذا العالم، وذلك يقتضي تخريب العالم وإفناءه والثالث : أن آراءهم كانت متناقضة فلو اتبع الحق أهواءهم لوقع التناقض ولاختل نظام العالم عن القفال.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٨٨
أما قوله :﴿بَلْ أَتَيْنَـاهُم بِذِكْرِهِمْ﴾ فقيل إنه القرآن والأدلة وقيل بل شرفهم وفخرهم بالرسول وكلا القولين متقارب لأن في مجيء الرسول بيان الأدلة وفي مجيء الأدلة بيان الرسول فأحدهما مقرون بالآخر، وقيل الذكر هو الوعظ والتحذير، وقيل هو الذي كانوا يتمنونه ويقولون :﴿لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا مِّنَ الاوَّلِينَ * لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ (الصافات : ١٦٨، ١٦٩) وقرىء بذكراهم. ثم بين سبحانه أنه عليه الصلاة والسلام لا يطمع فيهم حتى يكون ذلك سبباً للنفرة فقال :﴿أَمْ تَسْـاَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ ﴾ وقرىء خراجاً، قال أبو عمرو بن العلاء الخرج ما تبرعت به والخراج ما لزمك أداؤه والوجه أن الخرج أخص من الخراج كقولك خراج القرية وخرج الكردة زيادة اللفظ لزيادة المعنى ولذلك حسنت قراءة من قرأ ﴿خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ﴾ يعني أم تسألهم على هدايتهم قليلاً من عطاء الخلق فالكثير من عطاء الخلق خير. فنبه سبحانه بذلك على أن هذه التهمة بعيدة عنه، فلا يجوز أن ينفروا عن قبول قوله لأجلها. فنبه سبحانه بهذه الآيات على أنهم غير معذورين ألبته وأنهم محجوجون من جميع الوجوه، قال الجبائي دل قوله تعالى :﴿وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ على أن أحداً من العباد لا يقدر على مثل نعمه ورزقه ولا يساويه في الإفضال على عباده ودل أيضاً على أن العباد قد يرزق بعضهم بعضاً ولولا ذلك لما جاز أن يقول :﴿وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٨٨
٢٨٩


الصفحة التالية
Icon