أما قوله :﴿قَالُوا لَبِثْنَا﴾ ففيه وجوه : أحدها : المراد بهم الحفظة وأنهم كانوا يحصون الأعمال وأوقات الحياة ويحسبون أوقات موتهم وتقدم من تقدم وتأخر من تأخر، وهو معنى قول عكرمة فاسأل العادين أي الذين يحسبون وثانيها : فاسأل الملائكة الذين يعدون أيام الدنيا وساعاتها وثالثها : أن يكون المعنى سل من يعرف عدد ذلك فإنا قد نسيناه ورابعها : قرىء العادين بالتخفيف أي الظلمة فإنهم يقولون مثل ما قلنا وخامسها : قرىء العاديين أي القدماء المعمرين، فإنهم يستقصرونها فكيف بمن دونهم ؟
أما قوله :﴿لَّبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا ﴾ فالمعنى أنهم قالوا :﴿لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ على معنى أنا لبثنا في الدنيا قليلاً، فكأنه قيل لهم صدقتم ما لبثتم فيها إلا قليلاً إلا أنها انقضت ومضت، فظهر أن الغرض من هذا السؤال تعريف قلة أيام الدنيا في مقابلة أيام الآخرة.
فأما قوله تعالى :﴿لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ فبين في هذا الوجه أنه أراد أنه قليل لو علمتم البعث والحشر، لكنكم لما أنكرتم ذلك كنتم تعدونه طويلاً.
ثم بين تعالى ما هو في التوبيخ أعظم بقوله :﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" ﴿عَبَثًا﴾ حال أي عابثين كقوله :﴿لَاعِبِينَ﴾ أو مفعول به أي ما خلقناكم للعبث.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٣٠١
المسألة الثانية : أنه سبحانه لما شرح صفات القيامة ختم الكلام فيها بإقامة الدلالة على وجودها وهي أنه لولا القيامة لما تميز المطيع من العاصي والصديق من الزنديق، وحينئذ يكون خلق هذا العالم عبثاً، وأما الرجوع إلى الله تعالى فالمراد إلى حيث لا مالك ولا حاكم سواه لا أنه رجوع من مكان إلى مكان لاستحالة ذلك على الله تعالى ثم إنه تعالى نزه نفسه عن العبث بقوله :﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ﴾ والملك هو المالك للأشياء الذي لا يبيد ولا يزول ملكه وقدرته، وأما الحق فهو الذي يحق له الملك لأن كل شيء منه وإليه، وهو الثابت الذي لا يزول ولا يزول ملكه، وبين أنه لا إله سواه وأن ما عداه فمصيره إلى الفناء وما يفنى لا يكون إلهاً وبين أنه تعالى :﴿رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾. قال أبو مسلم والعرش ههنا السموات بما فيها من العرش الذي تطوف به الملائكة ويجوز أن يعني به الملك العظيم، وقال الأكثرون المراد هو العرش حقيقة وإنما وصفه بالكريم لأن الرحمة تنزل منه والخير والبركة ولنسبته إلى أكرم الأكرمين كما يقال بيت كريم إذا كان ساكنوه كراماً وقرىء الكريم بالرفع ونحوه ذو العرش المجيد.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٣٠١
٣٠١
اعلم أنه سبحانه لما بين أنه هو الملك الحق لا إله إلا هو أتبعه بأن من ادعى إلهاً آخر فقد ادعى باطلاً من حيث لا برهان لهم فيه، ونبه بذلك على أن كل ما لا برهان فيه لا يجوز إثباته، وذلك يوجب صحة النظر وفساد التقليد ثم ذكر أن من قال بذلك فجزاؤه العقاب العظيم بقوله :﴿فَإِنَّمَا حِسَابُه عِندَ رَبِّه ﴾ كأنه قال إن عقابه بلغ إلى حيث لا يقدر أحد على حسابه إلا الله تعالى وقرىء أنه لا يفلح بفتح الهمزة ومعناه حسابه عدم الفلاح جعل فاتحة السورة ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ (المؤمنون : ١) وخاتمتها ﴿إِنَّه لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة. ثم أمر الرسول صلى الله عليه وسلّم بأن يقول رب اغفر وارحم ويثني عليه بأنه خير الراحمين، وقد تقدم بيان أنه سبحانه خير الراحمين فإن قيل كيف تتصل هذه الخاتمة بما قبلها ؟
قلنا لأنه سبحانه لما شرح أحوال الكفار في جهلهم في الدنيا وعذابهم في الآخرة أمر بالانقطاع إلى الله تعالى والالتجاء إلى دلائل غفرانه ورحمته، فإنهما هما العاصمان عن كل الآفات والمخافات، وروي أن أول سورة ﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾ وآخرها من كنوز العرش من عمل بثلاث آيات من أولها، واتعظ بأربع من آخرها فقد نجا وأفلح. والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب والحمد لله وحده وصلاته على خير خلقه سيدنا محمد وآله وأصحابه وأزواجه وعترته وأهل بيته.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٣٠١
٣٠٢


الصفحة التالية
Icon