وأما قوله :﴿وَحُرِّمَ ذَالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ فالجواب من وجهين : أحدهما : أن نكاح المؤمن الممدوح عند الله الزانية ورغبته فيها، وانخراطه بذلك في سلك الفسقة المتسمين بالزنا محرم عليه، لما فيه من التشبه بالفساق وحضور مواضع التهمة، والتسبب لسوء المقالة فيه والغيبة. ومجالسة الخاطئين كم فيها من التعرض لاقتراف الآثام، فكيف بمزاوجة الزواني والفجار الثاني : وهو أن صرف الرغبة بالكلية إلى الزواني وترك الرغبة في الصالحات محرم على المؤمنين، لأن قوله :﴿الزَّانِى لا يَنكِحُ إِلا زَانِيَةً﴾ معناه أن الزاني لا يرغب إلا في الزانية فهذا الحصر محرم على المؤمنين، ولا يلزم من حرمة هذا الحصر حرمة التزوج بالزانية، فهذا هو المعتمد في تفسير الآية : الوجه الثاني : أن الألف واللام في قوله :﴿الزَّانِى﴾ وفي قوله :﴿وَحُرِّمَ ذَالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ وإن كان للعموم ظاهراً لكنه ههنا مخصوص بالأقوام الذين نزلت هذه الآية فيهم، قال مجاهد وعطاء بن أبي رباح وقتادة، قدم المهاجرون المدينة وفيهم فقراء ليس لهم أموال ولا عشائر، وبالمدينة نساء بغايا يكرين أنفسهن وهن يومئذ أخصب أهل المدينة، ولكل واحدة منهن علامة على بابها كعلامة البيطار، ليعرف أنها زانية، وكان لا يدخل عليها إلا زان أو مشرك فرغب في كسبهن ناس من فقراء المسلمين، وقالوا نتزوج بهن إلى أن يغنينا الله عنهن، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فنزلت هذه الآية فتقدير الآية أولئك الزواني لا ينكحون إلا تلك الزانيات، وتلك الزانيات لا ينكحهن إلا أولئك الزواني وحرم نكاحهن على المؤمنين الوجه الثالث : في الجواب أن قوله :﴿الزَّانِى لا يَنكِحُ إِلا زَانِيَةً﴾ وإن كان خبراً في الظاهر، لكن المراد النهي، والمعنى أن كل من كان زانياً فلا ينبغي أن ينكح إلا زانية وحرم ذلك على المؤمنين. وهكذا كان الحكم في ابتداء الإسلام، وعلى هذا الوجه ذكروا قولين : أحدهما : أن ذلك الحكم باق إلى الآن حتى يحرم على الزاني والزانية التزوج بالعفيفة والعفيف وبالعكس ويقال هذا مذهب أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وعائشة، ثم في هؤلاء من يسوي بين الابتداء والدوام. فيقول كما لا يحل للمؤمن أن يتزوج بالزانية فكذلك لا يحل له إذا زنت تحته أن يقيم عليها/ ومنهم من يفصل لأن في جملة ما يمنع من التزويج ما لا يمنع من دوام النكاح كالإحرام والعدة.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٣٣٠
والقول الثاني : أن هذا الحكم صار منسوخاً واختلفوا في ناسخه، فعن الجبائي أن ناسخه هو الإجماع وعن سعيد بن المسيب أنه منسوخ بعموم قوله تعالى :﴿فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَآءِ﴾ (النساء : ٣) ﴿وَأَنكِحُوا الايَـامَى ﴾ (النور : ٣٢) قال المحققون هذان الوجهان ضعيفان أما الأول : فلأنه ثبت في أصول الفقه أن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به، وأيضاً فالإجماع الحاصل عقيب الخلاف لا يكون حجة، والإجماع في هذه المسألة مسبوق بمخالفة أبي بكر وعمر وعلي فكيف يصح ؟
وأما قوله تعالى :﴿فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم﴾ فهو لا يصح أن يكون ناسخاً، لأنه لا بد من أن يشترط فيه أن لا يكون هناك مانع من النكاح من سبب أو نسب أو غيرهما، ولقائل أن يقول لا يدخل فيه تزويج الزانية من المؤمن، كما لا يدخل فيه تزويجها من الأخ وابن الأخ، ونقول إن للزنا تأثيراً في الفرقة ما ليس لغيره، ألا ترى أنه إذا قذفها بالزنا يتبعها بالفرقة على بعض الوجوه، ولا يجب مثل ذلك في سائر ما يوجب الحد، ولأن من حق الزنا أن يورث العار ويؤثر في الفراش ففارق غيره. ثم احتج هؤلاء الذين يدعون هذا النسخ، بأنه سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن رجل زنى بامرأة فهل له أن يتزوجها ؟
فأجازه ابن عباس وشبهه بمن سرق ثمر شجرة ثم اشتراه، وعن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه سئل عن ذلك فقال :"أوله سفاح وآخره نكاح" والحرام لا يحرم الحلال. الوجه الرابع : أن يحمل النكاح على الوطء والمعنى أن الزاني لا يطأ حين يزني إلا زانية أو مشركة وكذا الزانية ﴿وَحُرِّمَ ذَالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي وحرم الزنا على المؤمنين وعلى هذا تأويل أبي مسلم، قال الزجاج هذا التأويل فاسد من وجهين : الأول : أنه ما ورد النكاح في كتاب الله تعالى إلا بمعنى التزويج، ولم يرد ألبتة بمعنى الوطء الثاني : أن ذلك يخرج الكلام عن الفائدة، لأنا لو قلنا المراد أن الزاني لا يطأ إلا الزانية فالإشكال عائد، لأنا نرى أن الزاني قد يطأ العفيفة حين يتزوج بها ولو قلنا المراد أن الزاني لا يطأ إلا الزانية حين يكون وطؤه زنا فهذا الكلام لا فائدة فيه، وهذا آخر الكلام في هذا المقام.


الصفحة التالية
Icon