المسألة الأولى : ذكروا في قوله :﴿وَلا يَأْتَلِ﴾ وجهين : الأول : وهو المشهور أنه من ائتلى إذا حلف، افتعل من الألية، والمعنى لا يحلف، قال أبو مسلم هذا ضعيف لوجهين : أحدهما :/ أن ظاهر الآية على هذا التأويل يقتضي المنع من الحلف على الإعطاء وهم أرادوا المنع من الحلف على ترك الإعطاء، فهذا المتأول قد أقام النفي مكان الإيجاب وجعل المنهي عنه مأموراً به ؛ وثانيهما : أنه قلما يوجد في الكلام افتعلت مكان أفعلت، وإنما يوجد مكان فعلت، وهنا آليت من الألية افتعلت. فلا يقال أفعلت كما لا يقال من ألزمت التزمت ومن أعطيت اعتطيت، ثم قال في يأتل إن أصله يأتلي ذهبت الياء للجزم لأنه نهى وهو من قولك ما آلوت فلاناً نصحاً، ولم آل في أمري جهداً، أي ما قصرت ولا يأل ولا يأتل واحداً، فالمراد لا تقصروا في أن تحسنوا إليهم ويوجد كثيراً افتعلت مكان فعلت تقول كسبت واكتسبت وصنعت واصطنعت ورضيت وارتضيت، فهذا التأويل هو الصحيح دون الأول، ويروى هذا التأويل أيضاً عن أبي عبيدة. أجاب الزجاج عن السؤال الأول بأن لا تخذف في اليمين كثيراً قال الله تعالى :﴿وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لايْمَـانِكُمْ أَن تَبَرُّوا ﴾ (البقرة : ٢٢٤) يعني أن لا تبروا، وقال امرؤ القيس :
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٣٥٥
فقلت يمين الله أبرح قاعدا
ولو قطعوا رأسي إليك وأوصالي
أي لا أبرح، وأجابوا عن السؤال الثاني، أن جميع المفسرين الذين كانوا قبل أبي مسلم فسروا اللفظة باليمين وقول كل واحد منهم حجة في اللغة فكيف الكل، ويعضده قراءة الحسن ولا يتأل.
المسألة الثانية : أجمع المفسرون على أن المراد من قوله :﴿أُوْلُوا الْفَضْلِ﴾ أبو بكر، وهذه الآية تدل على أنه رضي الله عنه كان أفضل الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلّم لأن الفضل المذكور في هذه الآية إما في الدنيا وإما في الدين/ والأول باطل لأنه تعالى ذكره في معرض المدح له، والمدح من الله تعالى بالدنيا غير جائز، ولأنه لو كان كذلك لكان قوله :﴿وَالسَّعَةِ﴾ تكريراً فتعين أن يكون المراد منه الفضل في الدين، فلو كان غيره مساوياً له في الدرجات في الدين لم يكن هو صاحب الفضل لأن المساوي لا يكون فاضلاً، فلما أثبت الله تعالى له الفضل مطلقاً غير مقيد بشخص دون شخص وجب أن يكون أفضل الخلق ترك العمل به في حق الرسول صلى الله عليه وسلّم فيبقى معمولاً به في حق الغير، فإن قيل نمنع إجماع المفسرين على اختصاص هذه الآية بأبي بكر، قلنا كل من طالع كتب التفسير والأحاديث علم أن اختصاص هذه الآية بأبي بكر بالغ إلى حد التواتر، فلو جاز منعه لجاز منع كل متواتر، وأيضاً فهذه الآية دالة على أن المراد منها أفضل الناس، وأجمعت الأمة على أن الأفضل إما أبو بكر أو علي، فإذا بينا أنه ليس المراد علياً تعينت الآية لأبي بكر، وإنما قلنا إنه ليس المراد منه علياً لوجهين : الأول : أن ما قبل هذه الآية وما بعدها يتعلق بابنة أبي بكر فيكون حديث علي في البين سمجاً الثاني : أنه تعالى وصفه بأنه من أولي السعة، وإن علياً لم يكن من أولي السعة في الدنيا في ذلك الوقت، فثبت أن المراد منه أبو بكر قطعاً، واعلم أن الله تعالى وصف أبا بكر في هذه الآية بصفات عجيبة دالة على علو شأنه في الدين أحدها : أنه سبحانه كنى عنه بلفظ الجمع والواحد إذا كنى عنه بلفظ الجمع دل على علو شأنه / كقوله تعالى :﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ﴾ (الحجر : ٩)، ﴿إِنَّآ أَعْطَيْنَـاكَ الْكَوْثَرَ﴾ (الكوثر : ١) فانظر إلى الشخص الذي كناه الله سبحانه مع جلاله بصيغة الجمع كيف يكون علو شأنه وثانيها : وصفه بأنه صاحب الفضل على الإطلاق من غير تقييد لذلك بشخص دون شخص، والفضل يدخل فيه الإفضال، وذلك يدل على أنه رضي الله عنه كما كان فاضلاً على الإطلاق كان مفضلاً على الإطلاق وثالثها : أن الإفضال إفادة ما ينبغي لا لعوض، فمن يهب السكين لمن يقتل نفسه لا يسمى مفضلاً لأنه أعطى مالاً ينبغي، ومن أعطى ليستفيد منه عوضاً إما مالياً أو مدحاً أو ثناء فهو مستفيض والله تعالى قد وصفه بذلك فقال :
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٣٥٥


الصفحة التالية
Icon