أما قوله تعالى :﴿ذَالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ فالمعنى فيه ظاهر، إذ المراد أن فعل ذلك خير لكم وأولى لكم من الهجوم بغير إذن ﴿لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ أي لكي تتذكروا هذا التأديب فتتمسكوا به، ثم قال :﴿فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَآ﴾ أي في البيوت أحداً ﴿فَلا تَدْخُلُوهَا﴾ لأن العلة في الصورتين واحدة وهي جواز أن يكون هناك أحوال مكتومة يكره إطلاع الداخل عليها، ثم قال :﴿وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا ﴾ وذلك لأنه كما يكون الدخول قد يكرهه صاحب الدار فكذا الوقوف على الباب قد يكرهه، فلا جرم كان الأولى والأزكى له أن يرجع إزالة للإيحاش والإيذاء، ولما ذكر الله تعالى حكم الدور المسكونة ذكر بعده حكم الدور التي هي غير مسكونة، فقال :﴿لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ﴾ وذلك لأن المانع من الدخول إلا بإذن زائل عنها واختلف المفسرون في المراد من قوله :﴿بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ﴾ على أقوال : أحدها : وهو قول محمد بن الحنفية أنها الخانات والرباطات وحوانيت البياعين والمتاع المنفعة، كالاستكنان من الحر والبرد، وإيواء الرحال والسلع والشراء والبيع، يروى أن أبا بكر قال يا رسول الله إن الله قد أنزل عليك آية في الاستئذان وإنا نختلف في تجارتنا فننزل هذه الخانات، أفلا ندخلها إلا بإذن ؟
فنزلت هذه الآية. وثانيها : أنها الخربات يتبرز فيها والمتاع التبرز وثالثها : الأسواق ورابعها : أنها الحمامات، والأولى أن يقال إنه لا يمتنع دخول الجميع تحت الآية فيحمل على الكل، والعلة في ذلك أنها إذا كانت كذلك فهي مأذون بدخولها من جهة العرف/ فكذلك نقول إنها لو كانت غير مسكونة ولكنها كانت مغصوبة، فإنه لا يجوز للداخل أن يدخل فيها لكن الظاهر من حال الخانات أنها موضوعة لدخول الداخل.
وأما قوله :﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ﴾ فهو وعيد للذين يدخلون الخربات والدور الخالية من أهل الريبة.
الحكم السابع
حكم النظر
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٣٦٨
٣٧١
اعلم أنه تعالى قال :﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ وإنما خصهم بذلك لأن غيرهم لا يلزمه غض البصر عما لا يحل له ويحفظ الفرج عما لا يحل له، لأن هذه الأحكام كالفروع للإسلام والمؤمنون مأمورون بها ابتداء، والكفار مأمورون قبلها بما تصير هذه الأحكام تابعة له، وإن كان حالهم كحال المؤمنين في استحقاق العقاب على تركها، لكن المؤمن يتمكن من هذه الطاعة من دون مقدمة، والكافر لا يتمكن إلا بتقديم مقدمة من قبله، وذلك لا يمنع من لزوم التكاليف له.
واعلم أنه سبحانه أمر الرجال بغض البصر وحفظ الفرج، وأمر النساء بمثل ما أمر به الرجال وزاد فيهن أن لا يبدين زينتهن إلا لأقوام مخصوصين.
أما قوله تعالى :﴿يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَـارِهِمْ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الأكثرون (من) ههنا للتبعيض والمراد غض البصر عما يحرم والاقتصار به على ما يحل، وجوز الأخفش أن تكون مزيدة، ونظيره قوله :﴿مَا لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُه ﴾ (الأعراف : ٨٥) ﴿فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَـاجِزِينَ﴾ (الحاقة : ٤٧) وأباه سيبويه، فإن قيل كيف دخلت في غض البصر دون حفظ الفرج ؟
قلنا دلالة على أن أمر النظر أوسع ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن وصدورهن وكذا الجواري المستعرضات، وأما أمر الفرج فمضيق، وكفاك فرقاً أن أبيح النظر إلا ما استثنى منه وحظر الجماع إلا ما استثنى منه، ومنهم من قال :﴿يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَـارِهِمْ﴾ أي ينقصوا من نظرهم فالبصر إذا لم يمكن من عمله فهو مغضوض ممنوع عنه، وعلى هذا من ليست بزائدة ولا هي للتبعيض بل هي من صلة الغض يقال غضضت من فلان إذا نقصت من قدره.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٣٧١


الصفحة التالية
Icon