المسألة الثالثة : قال محي السنة : الكتابة أن يقول لمملوكه كاتبتك على كذا ويسمى مالاً معلوماً يؤديه في نجمين أو أكثر، ويبين عدد النجوم وما يؤدي في كل نجم، ويقول إذا أديت ذلك المال فأنت حر، أو نوي ذلك بقلبه ويقول العبد قبلت، وفي هذا الضبط أبحاث.
البحث الأول : قال الشافعي رحمه الله : إن لم يقل بلسانه أو لم ينو بقلبه إذا أديت ذلك المال فأنت حر لم يعتق، وقال أبو حنيفة ومالك وأبو يوسف ومحمد وزفر رحمهم الله لا حلاجة إلى ذلك/ حجة أبي حنيفة رحمه الله أن قوله تعالى :﴿فَكَاتِبُوهُمْ﴾ خال عن هذا الشرط فوجب أن تصح الكتابة بدون هذا الشرط، وإذا صحت الكتابة وجب أن يعتق بالأداء للإجماع، حجة الشافعي رحمه الله : أن الكتابة ليست عقد معاوضة محضة، لأن ما في يد العبد فهو ملك السيد والإنسان لا يمكنه بيع ملكه بملكه، بل قوله كاتبتك كتابة في العتق فلا بد من لفظ العتق أو نيته.
البحث الثاني : لا تجوز الكتابة الحالة عند الشافعي، وتجوز عند أبي حنيفة، وجه قول الشافعي رحمه الله أن العبد لا يتصور له ملك يؤديه في الحال، وإذا عقد حالاً توجهت المطالبة عليه في الحال، فإذا عجز عن الأداء لم يحصل مقصود العقد، كما لو أسلم في شيء لا يوجد عند المحل لا يصح بخلاف ما لو أسلم إلى معسر فإنه يجوز، لأنه حين العقد يتصور أن يكون له ملك في الباطن، فالعجز لا يتحقق عن أدائه، وجه قول أبي حنيفة رحمه الله أن قوله تعالى :﴿فَكَاتِبُوهُمْ﴾ مطلق يتناول الكتابة الحالة والمؤجلة، وأيضاً لما كان مال الكتابة بدلاً عن الرقبة كان بمنزلة أثمان السلع المبيعة فيجوز عاجلاً وآجلاً، وأيضاً أجمعوا على جواز العتق معلقاً على مال حال فوجب أن تكون الكتابة مثله، لأنه بدل عن العتق في الحالين إلا أن في أحدهما العتق معلق على شرط الأداء وفي الآخر معجل، فوجب أن لا يختلف حكمهما.
البحث الثالث : قال الشافعي رحمه الله : لا تجوز الكتابة على أقل من نجمين، يروى ذلك عن علي وعثمان وابن عمر، روى أن عثمان رضي الله عنه غضب على عبده، فقال : لأضيقن الأمر عليك، ولأكاتبنك على نجمين، ولو جاز على أقل من ذلك لكاتبه على الأقل، لأن التضييق فيه أشد، وإنما شرطنا التنجيم لأنه عقد إرفاق، ومن شرط الإرفاق التنجيم ليتيسر عليهم الأداء. وقال أبو حنيفة رحمه الله : تجوز الكتابة على نجم واحد، لأن ظاهر قوله :﴿فَكَاتِبُوهُمْ﴾ ليس فيه تقييد.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٣٧٨
المسألة الرابعة : تجوز كتابة المملوك عبداً كان أو أمة، ويشترط عند الشافعي رحمه الله أن يكون عاقلاً بالغاً، فإذا كان صبياً أو مجنوناً لا تصح كتابته، لأن الله تعالى قال :﴿وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَـابَ﴾ ولا يتصور الابتغاء من الصبي والمجنون. وعند أبي حنيفة رحمه الله : تجوز كتابة الصبي ويقبل عنه المولى.
المسألة الخامسة : يشرط أن يكون المولى مكلفاً مطلقاً، فإن كان صبياً أو مجنوناً أو محجوراً عليه بالسفه لا تصح كتابته كما لا يصح بيعه، ولأن قوله :﴿فَكَاتِبُوهُمْ﴾ خطاب فلا يتناول غير العاقل، وعند أبي حنيفة رحمه لله تصح كتابة الصبي بإذن الولي.
المسألة السادسة : اختلف العلماء في أن قوله :﴿فَكَاتِبُوهُمْ﴾ أمر إيجاب أو أمر استحباب ؟
فقال قائلون هو أمر إيجاب، فيجب على الرجل أن يكاتب مملوكه إذا سأله ذلك بقيمته أو أكثر إذا علم فيه خيراً، ولو كان بدون قيمته لم يلزمه، وهذا قول عمرو بن دينار وعطاء، وإليه ذهب داود بن علي ومحمد بن جرير، واحتجوا عليه بالآية والأثر. أما الآية فظاهر قوله تعالى :﴿فَكَاتِبُوهُمْ﴾ لأنه أمر وهو للإيجاب، ويدل عليه أيضاً سبب نزول الآية، فإنها نزلت في غلام لحويطب ابن عبد العزى يقال له صبيح سأل مولاه أن يكاتبه فأبى عليه، فنزلت الآية فكاتبه على مائة دينار ووهب له منها عشرين ديناراً، وأما الأثر فما روي أن عمر أمر أنساً أن يكاتب سيرين أبا محمد بن سيرين فأبى، فرفع عليه الدرة وضربه وقال :﴿فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ﴾ وحلف عليه ليكاتبنه، ولو لم يكن ذلك واجباً لكان ضربه بالدرة ظلماً، وما أنكر على عمر أحد من الصحابة فجرى ذلك مجرى الإجماع، وقال أكثر الفقهاء إنه أمر استحباب وهو ظاهر قول ابن عباس والحسن والشعبي وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري واحتجوا عليه بقوله عليه الصلاة والسلام "لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيب من نفسه" وأنه لا فرق أن يطلب الكتابة أو يطلب بيعه ممن يعتقه في الكفارة/ فكما لا يجب ذلك فكذا الكتابة وهذه طريقة المعاوضات أجمع وههنا سؤالان :
السؤال الأول : كيف يصح أن يبيع ماله بماله ؟
قلنا إذا ورد الشرع به فيجب أن يجوز كما إذا علق عتقه على مال يكتسبه فيؤديه أو يؤدي عنه صار سبباً لعتقه.


الصفحة التالية
Icon