﴿وَءَاتُوهُم﴾ معطوف على قوله :﴿فَكَاتِبُوهُمْ﴾ فيجب أن يكون المخاطب في الموضعين واحداً، وعلى هذا التأويل يكون المخاطب في الآية الأولى السادات، وفي الثانية سائر المسلمين قلنا : أما الأول فجوابه أن تلك الصدقة تحل لمولاه وكذلك إذا لم تقف الصدقة بجميع النجوم وعجز عن أداء الباقي كان للمولى ما أخذه لأنه لم يأخذه بسبب الصدقة، ولكن بسبب عقد الكتابة كمن اشترى الصدقة من الفقير أو ورثها منه. يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام في حديث بريرة "هو لها صدقة ولنا هدية" والجواب : عن الثاني أنه قد يصح الخطاب لقوم ثم يعطف عليه بمثل لفظه خطاباً لغيرهم، كقوله تعالى :﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ﴾ (البقرة : ٢٣١) فالخطاب للأزواج ثم خاطب الأولياء بقوله :﴿فَلا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ وقوله :﴿مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ﴾ والقائلون غير المبرئين فكذا ههنا قال للسادة ﴿فَكَاتِبُوهُمْ﴾ وقال لغيرهم ﴿وَءَاتُوهُم﴾ أو قال لهم ولغيرهم.
المسألة الثانية : قال الشافعي رحمه الله يجب على المولى إيتاء المكاتب وهو أن يحط عنه جزءاً من مال الكتابة أو يدفع إليه جزءاً مما أخذ منه، وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه إنه مندوب إليه لكنه غير واجب، حجة الشافعي رحمه الله ظاهر قوله :﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى ﴾ والأمر للوجوب فقيل عليه إن قوله :﴿فَكَاتِبُوهُمْ﴾ وقوله :﴿وَءَاتُوهُم﴾ أمران وردا في صورة واحدة فلم جعلت الأولى ندباً والثاني إيجاباً ؟
وأيضاً فقد ثبت أن قوله ﴿وَءَاتُوهُم﴾ ليس خطاباً مع الموالي بل مع عامة المسلمين. حجة أبي حنيفة رحمه الله من حيث السنة والقياس، أما السنة فما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه عليه الصلاة والسلام قال :"أيما عبد كاتب على مائة أوقية فأداها إلا عشر أواق فهو عبد" فلو كان الحط واجباً لسقط عنه بقدره، وعن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت :"جاءتني بريرة فقالت يا عائشة إني قد كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعيتني ولم تكن قضت من كتابتها شيئاً فقالت عائشة رضي الله عنها ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أعطيهم ذلك جميعاً ويكون ولاؤك لي فعلت، فأبوا فذكرت ذلك النبي صلى الله عليه وسلّم فقال لا يمنعك ذلك منها ابتاعي وأعتقي، فإنما الولاء لمن أعتق" وجه الاستدلال أنها ما قضت من كتابتها شيئاً وأرادت عائشة أن تؤدي عنها كتابتها بالكلية وذكرته لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وترك رسول الله النكر عليها/ ولم يقل إنها تستحق أن يحط عنها بعض كتابتها فثبت قولنا. وأما القياس فمن وجهين الأول : لو كان الإيتاء واجباً لكان وجوبه متعلقاً بالعقد فيكون العقد موجباً / له ومسقطاً له وذلك محال لتنافي الإسقاط والإيجاب الثاني : لو كان الحط واجباً لما أحتاج إلى أن يضع عنه بل كان يسقط القدر المستحق كمن له على إنسان دين ثم حصل لذلك الآخر على الأول مثله فإنه يصير قصاصاً، ولو كان كذلك لكان قدر الإيتاء إما أن يكون معلوماً أو مجهولاً فإن كان معلوماً وجب أن تكون الكتابة بألفين فيعتق إذا أدى ثلاثة آلاف. والكتابة أربعة آلاف وذلك باطل لأن أداء جميعها مشروط فلا يعتق بأداء بعضها، ولأنه عليه السلام قال :"المكاتب عبد ما بقي عليه درهم" وإن كان مجهولاً صارت الكتابة مجهولة لأن الباقي بعد الحط مجهول فيصير بمنزلة من كاتب عبده على ألف درهم إلا شيئاً وذلك غير جائز والله أعلم.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٣٧٨
الحكم العاشر
الإكراه على الزنا
قوله تعالى :﴿وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَـاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنا بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ﴾.
اعلم أنه تعالى لما بين ما يلزم من تزويج العبيد والإماء وكتابتهم أتبع ذلك بالمنع من إكراه الإماء على الفجور، وههنا مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا في سبب نزولها على وجوه الأول : كان لعبد الله بن أبي المنافق ست جوار معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة يكرههن على البغاء وضرب عليهن ضرائب فشكت (ا) ثنتان منهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فنزلت الآية وثانيها : أن عبد الله بن أبي أسر رجلاً فراود الأسير جارية عبدالله وكانت الجارية مسلمة فامتنعت الجارية لإسلامها وأكرهها ابن أبي على ذلك، رجاء أن تحمل من الأسير فيطلب فداء ولده فنزلت وثالثها : روى أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :"جاء عبدالله بن أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومعه جارية من أجمل النساء تسمى معاذة، فقال يا رسول الله هذه لأيتام فلان أفلا نأمرها بالزنا فيصيبون من منافعها ؟
فقال عليه الصلاة والسلام لا فأعاد الكلام" فنزلت الآية وقال جابر بن عبدالله "جاءت جارية لبعض الناس فقالت إن سيدي يكرهني على البغاء" فنزلت الآية.


الصفحة التالية
Icon