﴿لَيْسَ كَمِثْلِه شَىْءٌ ﴾ (الشورى : ١١) ولو كان نوراً لبطل ذلك لأن الأنوار كلها متماثلة الثاني : أن قوله تعالى :﴿مَثَلُ نُورِه ﴾ صريح في أنه ليس ذاته نفس النور بل النور مضاف إليه. وكذا قوله :﴿يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِه مَن يَشَآءُ ﴾ فإن قيل قوله :﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَـاوَاتِ﴾ يقتضي ظاهره أنه في ذاته نور. وقوله :﴿مَثَلُ نُورِه ﴾ يقتضي أن لا يكون هو في ذاته نوراً وبينهما تناقض، قلنا نظير هذه الآية قولك زيد / كرم وجود، ثم تقول ينعش الناس بكرمه وجوده، وعلى هذا الطريق لا تناقض الثالث : قوله سبحانه وتعالى :﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَـاتِ وَالنُّورَ ﴾ (الأنعام : ١) وذلك صريح في أن ماهية النور مجعولة لله تعالى فيستحيل أن يكون الإله نوراً، فثبت أنه لا بد من التأويل، والعلماء ذكروا فيه وجهاً : أحدها : أن النور سبب للظهور والهداية لما شاركت النور في هذا النور في هذا المعنى صح إطلاق اسم النور على الهداية وهو كقوله تعالى :﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ (البقرة : ٢٥٧).
وقوله :﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـاهُ وَجَعَلْنَا لَه نُورًا﴾ (الأنعام : ١٢٢) وقال :﴿وَلَـاكِن جَعَلْنَـاهُ نُورًا نَّهْدِى بِه مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا ﴾ (الشورى : ٥٢) فقوله :﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ ﴾ أي ذو نور السموات والأرض والنور هو الهداية ولا تحصل إلا لأهل السموات، والحاصل أن المراد الله هادي أهل السموات والأرض وهو قول ابن عباس والأكثرين رضي الله عنهم وثانيها : المراد أنه مدبر السموات والأرض بحكمة بالغة وحجة نيرة فوصف نفسه بذلك كما يوصف الرئيس العالم بأنه نور البلد، فإنه إذا كان مدبرهم تدبيراً حسناً فهو لهم كالنور الذي يهتدى به إلى مسالك الطرق، قال جرير :
وأنت لنا نور وغيث وعصمة
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٣٩٩
وهذا اختيار الأصم والزجاج وثالثها : المراد ناظم السموات والأرض على الترتيب الأحسن فإنه قد يعبر بالنور على النظام، يقال ما أرى لهذا الأمر نوراً ورابعها : معناه منور السموات والأرض ثم ذكروا في هذا القول ثلاثة أوجه : أحدها : أنه منور السماء بالملائكة والأرض بالأنبياء والثاني : منورها بالشمس والقمر والكواكب والثالث : أنه زين السماء بالشمس والقمر والكواكب وزين الأرض بالأنبياء والعلماء، وهو مروي عن أبي بن كعب والحسن وأبي العالية والأقرب هو القول الأول لأن قوله في آخر الآية :﴿يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِه مَن يَشَآءُ ﴾ يدل على أن المراد بالنور الهداية إلى العلم والعمل. واعلم أن الشيخ الغزالي رحمه الله صنف في تفسير هذه الآية الكتاب المسمى بمشكاة الأنوار، وزعم أن الله نور في الحقيقة بل ليس النور إلا هو، وأنا أنقل محصل ما ذكره مع زوائد كثيرة تقوي كلامه ثم ننظر في صحته وفساده على سبيل الإنصاف فقال : اسم النور إنما وضع للكيفية الفائضة من الشمس والقمر والنار على ظواهر هذه الأجسام الكثيفة، فيقال استنارت الأرض ووقع نور الشمس على الثوب ونور السراج على الحائط، ومعلوم أن هذه الكيفية إنما اختصت بالفضيلة والشرف لأن المرئيات تصير بسببها ظاهرة منجلية، ثم من المعلوم أنه كما يتوقف إدراك هذه المرئيات على كونها مستنيرة فكذا يتوقف على وجود العين الباصرة إذ المرئيات بعد استنارتها لا تكون ظاهرة في حق العميان فقد ساوى الروح الباصرة النور الظاهرة في كونه ركناً لا بد منه للظهور، ثم يرجح عليه في أن الروح الباصرة هي المدركة وبها الإدراك، وأما النور الخارج فليس بمدرك ولا به الإدراك بل عنده الإدراك، فكان وصف الإظهار بالنور الباصر أحق منه بالنور المبصر فلا جرم أطلقوا / اسم النور على نور العين المبصرة فقالوا في الخفاش إن نور عينه ضعيف، وفي الأعمش إنه ضعف نور بصره. وفي الأعمى إنه فقد نور البصر. إذا ثبت هذا فنقول إن للإنسان بصراً وبصيرة فالبصر هو العين الظاهرة المدركة للأضواء والألوان، والبصيرة هي القوة العاقلة وكل واحد من الإدراكين يقتضي ظهور المدرك، فكل واحد من الإدراكين نور إلا أنهم عددوا لنور العين عيوباً لم يحصل شيء منها في نور العقلي، والغزالي رحمه الله ذكر منها سبعة، ونحن جعلناها عشرين الأول : أن القوة الباصرة لا تدرك نفسها ولا تدرك إدراكها ولا تدرك آلتها، أما أنها لا تدرك نفسها ولا
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٣٩٩


الصفحة التالية
Icon