المسألة الثانية عشرة : أنه سبحانه بين أن هؤلاء الرجال وإن تعبدوا بذكر الله والطاعات فإنهم مع ذلك موصوفون بالوجل والخوف فقال :﴿يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالابْصَـارُ﴾ وذلك الخوف إنما كان لعلمهم بأنهم ما عبدوا الله حق عبادته. واختلفوا في المراد بتقلب القلوب والأبصار على أقوال : فالقول الأول أن القلوب تضطرب من الهول والفزع وتشخص الأبصار لقوله :﴿وَإِذْ زَاغَتِ الابْصَـارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ﴾ (الأحزاب : ١٠) الثاني : أنها تتغير أحوالها فتفقه القلوب بعد أن كانت مطبوعاً عليها لا تفقه وتبصر الأبصار بعد أن كانت لا تبصر، فكأنهم انقلبوا من الشك إلى الظن، ومن الظن إلى اليقين، ومن اليقين إلى المعاينة، لقوله :﴿وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾ (الزمر : ٤٧) وقوله :﴿لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مِّنْ هَـاذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ﴾ (ق : ٢٢)، الثالث : أن القلوب تتقلب في ذلك اليوم طمعاً في النجابة وحذراً من الهلاك والأبصار تنقلب من أي ناحية يؤمر بهم، أمن ناحية اليمين أم من ناحية الشمال ؟
ومن أي ناحية يعطون كتابهم أمن قبل الإيمان أم من قبل الشمائل ؟
والمعتزلة لا يرضون بهذا التأويل، فإنهم قالوا إن أهل الثواب لا خوف عليهم ألبتة في ذلك اليوم، وأهل العقاب لا يرجون العفو، لكنا بينا فساد هذا المذهب غير مرة الرابع : أن القلوب تزول عن أماكنها فتبلغ الحناجر، والأبصار تصير زرقاً، قال الضحاك : يحشر الكافر وبصره حديد وتزرق عيناه ثم يعمى، ويتقلب القلب من الخوف حيث لا يجد مخلصاً حتى يقع في الحنجرة فهو قوله :﴿إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَـاظِمِينَ ﴾ (غافر : ١٨)، الخامس : قال الجبائي المراد بتقلب القلوب والأبصار تغير هيئاتهما بسبب ما ينالها من العذاب، فتكون مرة بهيئة ما أنضج بالنار ومرة بهيئة ما احترق، قال ويجوز أن يريد به تقلبها على جمر جهنم وهو معنى قوله تعالى :﴿وَنُقَلِّبُ أَفْـاِدَتَهُمْ وَأَبْصَـارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِه أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ (الأنعام : ١١٠).
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٠١
المسألة الثالثة عشرة : قوله :﴿لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا ﴾ أي يفعلون هذه القربات ليجزيهم الله ويثيبهم على أحسن ما عملوا، وفيه وجوه : الأول : المراد بالأحسن الحسنات أجمع، وهي الطاعات فرضها ونفلها، قال مقاتل : إنما ذكر الأحسن تنبيهاً على أنه لا يجازيهم على مساوىء أعمالهم بل يغفرها لهم. الثاني : أنه سبحانه يجزيهم جزاء أحسن ما عملوا على الواحد عشراً إلى سبعمائة الثالث : قال القاضي : المراد بذلك أن تكون الطاعات منهم مكفرة لمعاصيهم وإنما يجزيهم الله تعالى بأحسن الأعمال، وهذا مستقيم على مذهبه في الإحباط والموازنة.
أما قوله تعالى :﴿وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِه ﴾ فالمعنى أنه تعالى يجزيهم بأحسن الأعمال ولا يقتصر على قدر استحقاقهم بل يزيدهم من فضله على ما ذكره تعالى في سائر الآيات من التضعيف، فإن قيل فهذا يدل على أن لفعل الطاعة أثراً في استحقاق الثواب، لأنه تعالى ميز الجزاء عن الفضل وأنتم لا تقولون بذلك، فإن عندكم العبد لا يستحق على ربه شيئاً، قلنا نحن نثبت الاستحقاق لكن بالوعد فذاك القدر هو المستحق والزائد عليه هو الفضل ثم قال :﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ نبه به على كمال قدرته وكمال جوده ونفاذ مشيئته وسعة إحسانه، فكان سبحانه لما وصفهم بالجد والاجتهاد في الطاعة، ومع ذلك يكونون في نهاية الخوف، فالحق سبحانه يعطيهم الثواب العظيم على طاعاتهم، ويزيدهم الفضل الذي لا حد له في مقابلة خوفهم.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٠١
٤٠٣


الصفحة التالية
Icon