جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٠٣
٤٠٦
اعلم أنه سبحانه لما وصف أنوار قلوب المؤمنين وظلمات قلوب الجاهلين أتبع ذلك بدلائل التوحيد :
فالنوع الأول : ما ذكره في هذه الآية ولا شبهة في أن المراد ألم تعلم لأن التسبيح لا / تتناوله الرؤية بالبصر ويتناوله العلم بالقلب، وهذا الكلام وإن كان ظاهره استفهاماً فالمراد التقرير والبيان، فنبه تعالى على ما يلزم من تعظيمه بأن من في السموات يسبح له وكذلك من في الأرض.
واعلم أنه إما أن يكون المراد من التسبيح دلالة هذه الأشياء على كونه تعالى منزهاً عن النقائص موصوفاً بنعوت الجلال، وإما أن يكون المراد منه أنها تنطق بالتسبيح وتتكلم به، وإما أن يكون المراد منه في حق البعض الدلالة على التنزيه وفي حق الباقين النطق باللسان، والقسم الأول أقرب لأن القسم الثاني متعذر، لأن في الأرض من لا يكون مكلفاً لا يسبح بهذا المعنى، والمكلفون منهم من لا يسبح أيضاً بهذا المعنى كالكفار، أما القسم الثالث وهو أن يقال إن من في السموات وهم الملائكة يسبحون باللسان، وأما الذين في الأرض فمنهم من يسبح باللسان ومنهم من يسبح على سبيل الدلالة فهذا يقتضي استعمال اللفظ الواحد في الحقيقة والمجاز معاً وهو غير جائز فلم يبق إلا القسم الأول وذلك لأن هذه الأشياء مشتركة في أن أجسامها وصفاتها دالة على تنزيه الله سبحانه وتعالى وعلى قدرته وإلهيته وتوحيده وعدله فسمى ذلك تنزيهاً على وجه التوسع. فإن قيل فالتسبيح بهذا المعنى حاصل لجميع المخلوقات فما وجه تخصيصه ههنا بالعقلاء ؟
قلنا لأن خلقة العقلاء أشد دلالة على وجود الصانع سبحانه لأن العجائب والغرائب في خلقهم أكثر وهي العقل والنطق والفهم.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٠٦
أما قوله تعالى :﴿وَالطَّيْرُ صَـا فَّـاتٍ ﴾ فلقائل أن يقول ما وجه اتصال هذا بما قبله ؟
والجواب : أنه سبحانه لما ذكر أن أهل السموات وأهل الأرض يسبحون ذكر أن الذين استقروا في الهواء الذي هو بين السماء والأرض وهو الطير يسبحون/ وذلك لأن إعطاء الجرم الثقيل القوة التي بها يقوى على الوقوف في جو السماء صافة باسطة أجنحتها بما فيها من القبض والبسط من أعظم الدلائل على قدرة الصانع المدبر سبحانه وجعل طيرانها سجوداً منها له سبحانه، وذلك يؤكد ما ذكرناه من أن المراد من التسبيح دلالة هذه الأحوال على التنزيه لا النطق اللساني.
أما قوله :﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَه وَتَسْبِيحَه ﴾ ففيه ثلاثة أوجه : الأول : المراد كل قد علم الله صلاته وتسبيحه قالوا ويدل عليه قوله سبحانه :﴿وَاللَّهُ عَلِيمُا بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ وهو اختيار جمهور المتكلمين والثاني : أن يعود الضمير في الصلاة والتسبيح على لفظ ﴿كُلَّ﴾ أي إنهم يعلمون ما يجب عليهم من الصلاة والتسبيح والثالث : أن تكون الهاء راجعة على ذكر الله يعني قد علم كل مسبح وكل مصل صلاة الله التي كلفه إياها وعلى هذين التقديرين فقوله :﴿وَاللَّهُ عَلِيمُ ﴾ استئناف وروي عن أبي ثابت قال كنت جالساً عند محمد بن جعفر الباقر رضي الله عنه فقال لي : أتدري ما تقول هذه العصافير عند طلوع الشمس وبعد طلوعها ؟
قال لا، قال فإنهن يقدسن ربهن ويسألنه قوت يومهن. واستبعد المتكلمون ذلك فقالوا الطير لو كانت عارفة بالله تعالى لكانت كالعقلاء الذين يفهمون كلامنا وإشارتنا لكنها ليست كذلك، فإنا نعلم بالضرورة أنها أشد نقصاناً من الصبي الذي / لا يعرف هذه الأمور فبأن يمتنع ذلك فيها أولى، وإذا ثبت أنها لا تعرف الله تعالى استحال كونها مسبحة له بالنطق، فثبت أنها لا تسبح الله إلا بلسان الحال على ما تقدم تقريره.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٠٦


الصفحة التالية
Icon