المسألة الأولى : في هذه الآية قولان : أحدهما : أن في السماء جبالاً من برد خلقها الله تعالى كذلك، ثم ينزل منها ما شاء وهذا القول عليه أكثر المفسرين، قال مجاهد والكلبي : جبال من برد في السماء والقول الثاني : أن السماء هو الغيم المرتفع على رؤوس الناس سمي بذلك لسموه وارتفاعه، وأنه تعالى أنزل من هذا الغيم الذي هو سماء البرد وأراد بقوله ﴿مِن جِبَالٍ﴾ السحاب العظام لأنها إذا عظمت أشبهت الجبال، كما يقال فلان يملك جبالاً من مال ووصفت بذلك توسعاً وذهبوا إلى أن البرد ماء جامد خلقه الله تعالى في السحاب، ثم أنزله إلى الأرض، وقال بعضهم إنما سمى الله ذلك الغيم جبالاً، لأنه سبحانه خلقها من البرد، وكل جسم شديد متحجر فهو من الجبال، ومنه قوله تعالى :﴿وَاتَّقُوا الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الاوَّلِينَ﴾ (الشعراء : ١٨٤) ومنه فلان مجبول على كذا، قال المفسرون والأول أولى لأن السماء اسم لهذا الجسم المخصوص، فجعله اسماً للسحاب بطريقة الاشتقاق مجاز، وكما يصح أن يجعل الله الماء فى السحاب ثم ينزله برداً، فقد يصح أن يكون في / السماء جبال من برد، وإذا صح في القدرة كلا الأمرين فلا وجه لترك الظاهر.
المسألة الثانية : قال أبو علي الفارسي قوله تعالى :﴿مِنَ السَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِنا بَرَدٍ﴾ فمن الأولى لابتداء الغاية لأن ابتداء الإنزال من السماء، والثانية للتبعيض لأن ما ينزله الله بعض تلك الجبال التي في السماء، والثالثة للتبيين لأن جنس تلك الجبال جنس البرد، ثم قال ومفعول الإنزال محذوف والتقدير وينزل من السماء من جبال فيها من برد، إلا أنه حذف للدلالة عليه.
أما قوله :﴿فَيُصِيبُ بِه مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُه عَن مَّن يَشَآءُ ﴾ فالظاهر أنه راجع إلى البرد، ومعلوم من حاله أنه قد يضر ما يقع عليه من حيوان ونبات، فبين سبحانه أنه يصيب به من يشاء على وفق المصلحة ويصرفه، أي يصرف ضرره عمن يشاء بأن لا يسقط عليه، ومن الناس من حمل البرد على الحجر وجعل نزوله جارياً مجرى عذاب الاستئصال وذلك بعيد.
أما قوله تعالى :﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِه يَذْهَبُ بِالابْصَـارِ﴾ ففيه مسائل :
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٠٦
المسألة الأولى : قرىء ﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِه ﴾ على الإدغام وقرىء (بُرَقه) جمع بُرْقة وهي المقدار من البرق وبُرُقه بضمتين للاتباع كما قيل في جمع فعلة فعلات كظلمات/ و(سناء برقه) على المد والمقصور بمعنى الضوء والممدود بمعنى العلو والارتفاع من قولك سنى للمرتفع و﴿يَذْهَبُ بِالابْصَـارِ﴾ على زيادة الباء كقوله :﴿وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ (البقرة : ١٩٥) عن أبي جعفر المدني.
المسألة الثانية : وجه الاستدلال بقوله :﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِه يَذْهَبُ بِالابْصَـارِ﴾ أن البرق الذي يكون صفته ذلك لا بد وأن يكون ناراً عظيمة خالصة، والنار ضد الماء والبرد فظهوره من البرد يقتضي ظهور الضد من الضد، وذلك لا يمكن إلا بقدرة قادر حكيم.
المسألة الثالثة : اختلف النحويون في أنك إذا قلت ذهبت بزيد إلى الدار فهل يجب أن تكون ذاهباً معه إلى الدار، فالمنكرون احتجوا بهذه الآية.
أما قوله :﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ﴾ فقيل فيه وجوه : منها تعاقبهما ومجيء أحدهما بعد الآخر وهو كقوله :﴿وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً﴾ (الفرقان : ٦٢) ومنها ولوج أحدهما في الآخر وأخذ أحدهما من الآخر. ومنها تغير أحوالهما في البرد والحر وغيرهما ولا يمتنع في مثل ذلك أن يريد تعالى معاني الكل لأنه في الإنعام والاعتبار أولى وأقوى.
أما قوله تعالى :﴿إِنَّ فِى ذَالِكَ لَعِبْرَةً لاوْلِى الابْصَـارِ﴾ فالمعنى أن فيما تقدم ذكره دلالة لمن يرجع إلى بصيرة، فمن هذا الوجه يدل أن الواجب على المرء أن يتدبر ويتفكر في هذه الأمور، ويدل أيضاً على فساد التقليد.
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من الدلائل على الوحدانية وذلك لأنه لما استدل أولاً بأحوال السماء والأرض وثانياً بالآثار العلوية استدل ثالثاً بأحوال الحيوانات، واعلم أن على هذه الآية سؤالات :


الصفحة التالية
Icon