أما قوله تعالى :﴿أَفِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُه ﴾ ففيه سؤالات :
السؤال الأول : كلمة (أم) للاستفهام وهو غير جائز على الله تعالى والجواب : اللفظ استفهام ومعناه الخبر كما قال جرير :
ألستم خير من ركب المطايا
(وأندى العالمين بطون راح)
السؤال الثاني : أنهم لو خافوا أن يحيف الله عليهم فقد ارتابوا في الدين وإذ ارتابوا ففي قلوبهم مرض، فالكل واحد، فأي فائدة في التعديد ؟
الجواب : قوله :﴿أَفِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ إشارة إلى النفاق وقوله :﴿أَمِ ارْتَابُوا ﴾ إشارة إلى أنه حدث هذا الشك والريب بعد تقرير الإسلام في القلب، وقوله :﴿أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ إشارة إلى أنهم بلغوا في حب الدنيا إلى حيث يتركون الدين بسببه.
السؤال الثالث : هب أن هذه الثلاثة متغايرة ولكنها متلازمة فكيف أدخل عليها كلمة (أم) ؟
الجواب : الأقرب أنه تعالى ذمهم على كل واحد من هذه الأوصاف فكان في قلوبهم مرض وهو النفاق، وكان فيها شك وارتياب، وكانوا يخافون الحيف من الرسول عليه الصلاة والسلام وكل واحد من ذلك كفر ونفاق، ثم بين تعالى بقوله :﴿بَلْ أولئك هُمُ الظَّـالِمُونَ﴾ بطلان ما هم عليه لأن الظلم يتناول كل معصية كما قال تعالى :﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ إذ المرء لا يخلو من أن يكون ظالماً لنفسه أو ظالماً لغيره، ويمكن أن يقال أيضاً لما ذكر تعالى في الأقسام كونهم خائفين من الحيف، أبطل ذلك بقوله :﴿بَلْ أولئك هُمُ الظَّـالِمُونَ﴾ أي لا يخافون أن يحيف الرسول عليه الصلاة والسلام عليهم لمعرفتهم بأمانته وصيانته وإنما هم ظالمون يريدون أن يظلموا من له الحق عليهم وهم له جحود، وذلك شيء لا يستطيعونه في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم يأبون المحاكمة إليه.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٠٦
٤١٤
اعلم أنه تعالى لما حكى قول المنافقين وما قالوه وما فعلوه أتبعه بذكر ما كان يجب أن يفعلوه وما يجب أن يسلكه المؤمنون فقال تعالى :﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ الحسن ﴿قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ بالرفع، والنصب أقوى لأن أولى الاسمين بكونه اسماً لكان أوغلهما في التعريف و﴿أَن يَقُولُوا ﴾ أوغل لأنه لا سبيل عليه للتنكير بخلاف ﴿قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
المسألة الثانية : قوله :﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ معناه كذلك يجب أن يكون قولهم وطريقتهم إذا دعوا إلى حكم كتاب الله ورسوله أن يقولوا سمعنا وأطعنا، فيكون إتيانهم إليه وانقيادهم له سمعاً وطاعة، ومعنى ﴿سَمِعْنَا﴾ أجبنا على تأويل قول المسلمين سمع الله لمن حمده أي قبل وأجاب، ثم قال :﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَه ﴾ أي فيما ساءه وسره ﴿وَيَخْشَ اللَّهَ﴾ فيما صدر عنه من الذنوب في الماضي ﴿وَيَتَّقْهِ﴾ فيما بقي من عمره ﴿فَ أولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ وهذه الآية على إيجازها حاوية لكل ما ينبغي للمؤمنين أن يفعلوه.
أما قوله :﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـانِهِمْ لئن أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ ﴾ فقال مقاتل : من حلف بالله / فقد أجهد في اليمين، ثم قال لما بين الله تعالى كراهية المنافقين لحكم رسول الله، فقالوا والله لئن أمرتنا أن نخرج من ديارنا وأموالنا ونسائنا لخرجنا، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا، ثم إنه تعالى أمر رسوله أن ينهاهم عن هذا القسم بقوله :﴿قُل لا تُقْسِمُوا ﴾ ولو كان قسمهم كما يجب لم يجز النهي عنه لأن من حلف على القيام بالبر والواجب لا يجوز أن ينهى عنه، وإذا ثبت ذلك ثبت أن قسمهم كان لنفاقهم وأن باطنهم خلاف ظاهرهم، ومن نوى الغدر لا الوفاء فقسمه لا يكون إلا قبيحاً.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤١٤
أما قوله :﴿طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ﴾ فهو إما خبر مبتدأ محذوف، أي المطلوب منكم طاعة معروفة لا أيمان كاذبة، أو مبتدأ خبره محذوف أي طاعة معروفة أمثل من قسمكم بما لا تصدقون فيه، وقيل معناه دعوا القسم ولا تغتروا به وعليكم طاعة معروفة فتمسكوا بها. وقرأ اليزيدي ﴿طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ﴾ بالنصب على معنى أطيعوا طاعة (الله) ﴿إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُا بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ أي بصير لا يخفى عليه شيء من سرائركم، وإنه فاضحكم لا محالة ومجازيكم على نفاقكم.


الصفحة التالية
Icon