﴿عَنْ أَمْرِه ﴾ لا يفيد إلا أمراً واحداً، وعندما أن أمراً واحداً يفيد الوجوب، فلم قلت إن كل أمر كذلك ؟
سلمنا أن كل أمر كذلك، لكن الضمير في قوله :﴿عَنْ أَمْرِه ﴾ يحتمل عوده إلى الله تعالى وعوده إلى الرسول، والآية لا تدل إلا على أن الأمر للوجوب في حق أحدهما، فلم قلتم إنه في حق الآخر كذلك ؟
الجواب : قوله لم قلتم إن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه ؟
قلنا الدليل عليه أن العبد إذا امتثل أمر السيد حسن أن يقال إن هذا العبد موافق للسيد ويجري على وفق أمره، ولو لم يمتثل أمره يقال إنه ما وافقه بل خالفه، وحسن هذا الإطلاق معلوم بالضرورة من أهل اللغة فثبت أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه، قوله الموافقة عبارة عن الإتيان بما يقتضيه الأمر على الوجه الذي يقتضيه الأمر، قلنا لما سلمتم أن موافقة الأمر لا تحصل إلا عند الإتيان بمقتضى الأمر، فنقول لا شك أن مقتضى الأمر هو الفعل لأن قوله : افعل لا يدل إلا على اقتضاء الفعل، وإذا لم يوجد الفعل لم يوجد مقتضى الأمر، فلا توجد الموافقة فوجب حصول المخالفة لأنه ليس بين الموافقة والمخالفة واسطة قوله : الموافقة عبارة عن اعتقاد كون ذلك / الأمر حقاً واجب القبول، قلنا هذا لا يكون موافقة للأمر بل يكون موافقة للدليل الدال على أن ذلك الأمر حق، فإن موافقة الشيء عبارة عن الإتيان بما يقتضي تقرير مقتضاه، فإذا دل على حقية الشيء كان الاعتراف بحقيته يقتضي تقرير مقتضى ذلك الدليل، أما الأمر فلما اقتضى دخول الفعل في الوجود كانت موافقته عبارة عما يقرر ذلك الدخول وإدخاله في الوجود يقتضي تقرير دخوله في الوجود فكانت موافقة الأمر عبارة عن فعل مقتضاه. قوله لو كان كذلك لكان تارك المندوب مخالفاً فوجب أن يستحق العقاب، قلنا هذا الإلزام إنما يصح أن لو كان المندوب مأموراً به وهو ممنوع، قوله لم لا يجوز أن يكون قوله :﴿فَلْيَحْذَرِ﴾ أمراً بالحذر عن المخالف لا أمراً للمخالف بالحذر ؟
قلنا لو كان كذلك لصار التقدير فليحذر المتسللون لواذاً عن الذين يخالفون أمره وحينئذ يبقى قوله :﴿أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ ضائعاً لأن الحذر ليس فعلاً يتعدى إلى مفعولين. قوله كلمة (عن) ليست بزائدة، قلنا ذكرنا اختلاف الناس فيها في المسألة الأولى. قوله لم قلتم إن قوله :﴿فَلْيَحْذَرِ﴾ يدل على وجوب الحذر عن العقاب ؟
قلا لا ندعي وجوب الحذر، ولكن لا أقل من جواز الحذر، وذلك مشروط بوجود ما يقتضي وقوع العقاب. قوله لم قلت إن الآية تدل على أن كل مخالف للأمر يستحق العقاب ؟
قلنا لأنه تعالى رتب نزول العقاب على المخالفة فوجب أن يكون معللاً به، فيلزم عمومه لعموم العلة. قوله هب أن أمر الله أو أمر رسوله للوجوب، فلم قلتم إن الأمر كذلك ؟
قلنا لأنه لا قائل بالفرق والله أعلم.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٢٨
المسألة الرابعة : من الناس من قال لفظ الأمر مشترك بين الأمر القولي وبين الشأن والطريق، كما يقال أمر فلان مستقيم. وإذا ثبت ذلك كان قوله تعالى :﴿عَنْ أَمْرِه ﴾ يتناول قول الرسول وفعله وطريقته، وذلك يقتضي أن كل ما فعله عليه الصلاة والسلام يكون واجباً علينا، وهذه المسألة مبنية على أن الكناية في قوله ﴿عَنْ أَمْرِه ﴾ راجعة إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، أما لو كانت راجعة إلى الله تعالى فالبحث ساقط بالكلية، وتمام تقرير ذلك ذكرناه في أصول الفقه، والله أعلم.
أما قوله تعالى :﴿أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فالمراد أن مخالفة الأمر توجب أحد هذين الأمرين، والمراد بالفتنة العقوبة في الدنيا، والعذاب الأليم عذاب الآخرة، وإنما ردد الله تعالى حال ذلك المخالف بين هذين الأمرين لأن ذلك المخالف قد يموت من دون عقاب الدنيا وقد يعرض له ذلك في الدنيا، فلهذا السبب أورده تعالى على سبيل الترديد، ثم قال الحسن : الفتنة هي ظهور نفاقهم، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : القتل. وقيل : الزلازل والأهوال، وعن جعفر بن محمد يسلط عليهم سلطان جائر.
أما قوله تعالى :﴿أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ ﴾ فذاك كالدلالة على قدرته تعالى عليهما / وعلى ما بينهما وما فيهما، واقتداره على المكلف فيما يعامل به من المجازاة بثواب أو بعقاب، وعلمه بما يخفيه ويعلنه، وكل ذلك كالزجر عن مخالفة أمره.
أما قوله تعالى :﴿قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ﴾ فإنما أدخل ﴿قَدْ﴾ لتوكيد علمه بما هم عليه من المخالفة في الدين والنفاق. ويرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد : وذلك لأن قد إذا أدخلت على المضارع كانت بمعنى ربما، فوافقت ربما في خروجها إلى معنى التكثير. كما في قوله الشاعر :
فإن يمس مهجور الفناء فربما
أقام به بعد الوفود وفود
والخطاب والغيبة في قوله تعالى :﴿قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ﴾ يجوز أن يكونا جميعاً للمنافقين على طريق الالتفات، ويجوز أن يكون ما أنتم عليه عاماً ويرجعون للمنافقين، وقد تقدم في غير موضع أن الرجوع إليه هو الرجوع إلى حيث لا حكم إلا له فلا وجه لإعادته والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٢٨
٤٣١


الصفحة التالية
Icon