الشبهة الثالثة : وهي في نهاية الركاكة ذكروا له صفات خمسة فزعموا أنها تخل بالرسالة إحداها : قولهم :﴿مَالِ هَـاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ﴾ وثانيتها : قولهم :﴿وَيَمْشِى فِى الاسْوَاقِ ﴾ يعني أنه لما كان كذلك فمن أين له الفضل علينا وهو مثلنا في هذه الأمور وثالثتها : قولهم :﴿لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَه نَذِيرًا﴾ يصدقه أو يشهد له ويرد على من خالفه ورابعتها : قولهم :﴿أَوْ يُلْقَى ا إِلَيْهِ كَنزٌ﴾ أي من السماء فينفقه فلا يحتاج إلى التردد لطلب المعاش وخامستها : قولهم :﴿أَوْ تَكُونُ لَه جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا ﴾ قرأ حمزة والكسائي ﴿نَّأْكُلَ مِنْهَا﴾ بالنون وقرأ الباقون بالياء والمعنى إن لم يكن لك كنز فلا أقل من أن تكون كواحد من الدهاقين فيكون لك بستان تأكل منه وسادستها : قولهم :﴿إِن تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَّسْحُورًا﴾ وقد تقدمت هذه القصة في آخر سورة بني إسرائيل فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة من وجوه : أحدها : قوله :﴿انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الامْثَـالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا﴾ وفيه أبحاث :
الأول : أن هذا كيف يصلح أن يكون جواباً عن تلك الشبهة ؟
وبيانه أن الذي يتميز الرسول به عن غيره هو المعجزة وهذه الأشياء التي ذكروها لا يقدح شيء منها في المعجزة فلا يكون شيء منها قادحاً في النبوة، فكأنه تعالى قال انظر كيف اشتغل القوم بضرب هذه الأمثال التي لا فائدة فيها لأجل أنهم لما ضلوا وأرادوا القدح في نبوتك لم يجدوا إلى القدح فيه سبيلاً ألبتة إذ الطعن عليه إنما يكون بما يقدح في المعجزات التي ادعاها لا بهذا الجنس من القول وفيه وجه آخر وهو أنهم لما ضلوا لم يبق فيهم استطاعة قبول الحق، وهذا إنما يصح على مذهبنا وتقريره بالعقل ظاهر، وذلك لأن الإنسان إما أن يكون مستوى الداعي إلى الحق والباطل، وإما أن يكون داعيته إلى أحدهما أرجح من داعيته إلى الثاني، فإن كان الأول فحال الاستواء ممتنع الرجحان فيمتنع الفعل / وإن كان الثاني فحال رجحان أحد الطرفين يكون حصول الطرف الآخر ممتنعاً، فثبت أن حال رجحان الضلالة في قلبه استحال منه قبول الحق، وما كان محالاً لم يكن عليه قدرة، فثبت أنهم لما ضلوا ما كانوا مستطيعين.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٣٩
٤٤١
اعلم أن هذا هو الجواب الثاني عن تلك الشبهة فقوله :﴿تَبَارَكَ الَّذِى إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَالِكَ﴾ أي من الله ذكروه من نعم الدنيا كالكنز والجنة وفسر ذلك الخير بقوله :﴿جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورَا ﴾ نبه بذلك سبحانه على أنه قادر على أن يعطي الرسول كل ما ذكروه، ولكنه تعالى يدبر عباده بحسب الصالح أو على وفق المشيئة ولا اعتراض لأحد عليه في شيء من أفعاله، فيفتح على واحد أبواب المعارف والعلوم، ويسد عليه أبواب الدنيا، وفي حس الآخر بالعكس وما ذاك إلا أنه فعال لما يريد، وههنا مسائل :
المسألة الأولى : قال ابن عباس : خير من ذلك مما عيروك بفقده الجنة، لأنهم عيروك بفقد الجنة الواحدة وهو سبحانه قادر على أن يعطيك جنات كثيرة، وقال في رواية عكرمة :﴿خَيْرًا مِّن ذَالِكَ﴾ أي من المشي في الأسواق وابتغاء المعاش.
المسألة الثانية : قوله :﴿إِن شَآءَ﴾ معناه أنه سبحانه قادر على ذلك لا أنه تعالى شاك لأن الشك لا يجوز على الله تعالى، وقال قوم :﴿ءَانٍ﴾ ههنا بمعنى إذا، أي قد جعلنا لك في الآخرة جنات وبنينا لك قصوراً وإنما أدخل إن تنبيهاً للعباد على أنه لا ينال ذلك إلا برحمته، وأنه معلق على / محض مشيئته وأنه ليس لأحد من العباد على الله حق لا في الدنيا ولا في الآخرة.
المسألة الثالثة : القصور جماعة قصر وهو المسكن الرفيع ويحتمل أن يكون لكل جنة قصر فيكون مسكناً ومتنزهاً، ويجوز أن يكون القصور مجموعة والجنات مجموعة. وقال مجاهد : إن شاء جعل لك جنات في الآخرة وقصوراً في الدنيا.
المسألة الرابعة : اختلف الفراء في قوله ﴿وَيَجْعَل﴾ فرفع ابن كثير وابن عامر وعاصم اللام وجزمه الآخرون، فمن جزم فلأن المعنى إن شاء يجعل لك جنات ويجعل لك قصوراً ومن رفع فعلى الاستئناف والمعنى سيجعل لك قصوراً، هذا قول الزجاج : قال الواحدي وبين القراءتين فرق في المعنى، فمن جزم فالمعنى إن شاء يجعل لك قصوراً في الدنيا ولا يحسن الوقوف على الأنهار، ومن رفع حسن له الوقوف على الأنهار، واستأنف أي ويجعل لك قصوراً في الآخرة. وفي مصحف أبي وابن مسعود :(تبارك الذي إن شاء يجعل).
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٤١


الصفحة التالية
Icon