المسألة الثانية : ظاهر قوله :﴿وَمَا يَعْبُدُونَ﴾ أنها الأصنام، وظاهر قوله :﴿فَيَقُولُ ءَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى﴾ أنه من عبد من الأحياء كالملائكة والمسيح وغيرهما، لأن الإضلال وخلافه منهم يصح فلأجل هذا اختلفوا، فمن الناس من حمله على الأوثان، فإن قيل لهم الوثن جماد فكيف خاطبه الله تعالى، وكيف قدر على الجواب ؟
فعند ذلك ذكروا وجهين : أحدهما : أن الله تعالى يخلق فيهم الحياة، فعند ذلك يخاطبهم فيردون الجواب وثانيها : أن يكون ذلك الكلام لا بالقول اللساني بل على سبيل لسان الحال كما ذكر بعضهم في تسبيح الموات وكلام الأيدي والأرجل، وكما قيل : سل الأرض من شق أنهارك، وغرس أشجارك ؟
فإن لم تجبك حواراً، أجابتك اعتباراً! وأما الأكثرون فزعموا أن المراد هو الملائكة وعيسى وعزير عليهم السلام، قالوا ويتأكد هذا القول بقوله تعالى :﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ للملائكة أَهَـا ؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ﴾ (سبأ : ٤٠) وإذا قيل لهم : لفظة (ما) لا تستعمل في العقلاء أجابوا عنه من وجهين : الأول : لا نسلم أن كلمة (ما) لما لا يعقل بدليل أنهم قالوا (من) لما لا يعقل والثاني : أريد به الوصف كأنه قيل (ومعبودهم)، وقوله تعالى :﴿وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَـاـاهَا﴾ (الشمس : ٥) ﴿وَلا أَنتُمْ عَـابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ﴾ (لكافرون : ٣) لا يستقيم إلا على أحد هذين الوجهين، وكيف كان فالسؤال ساقط.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٥٢
المسألة الثالثة : حاصل الكلام أن الله تعالى يحشر المعبودين، ثم يقول لهم أأنتم أوقعتم عبادي في الضلال عن طريق الحق، أم هم ضلوا عنه بأنفسهم ؟
قالت المعتزلة : وفيه كسر بين لقول من يقول إن الله يضل عباده في الحقيقة لأنه لو كان الأمر كذلك لكان الجواب الصحيح أن يقولوا إلهنا ههنا قسم ثالث غيرهما هو الحق وهو أنك أنت أضلتهم، فلما لم يقولوا ذلك بل نسبوا إضلالهم إلى أنفسهم، علمنا أن الله تعالى لا يضل أحداً من عباده. فإن قيل لا نسلم أن المعبودين ما تعرضوا لهذا القسم بل ذكروه، فإنهم قالوا :﴿وَلَـاكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَءَابَآءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ﴾ وهذا تصريح بأن ضلالهم إنما حصل لأجل ما فعل الله بهم وهو أنه سبحانه وتعالى متعهم وآباءهم بنعيم الدنيا. قلنا : لو كان الأمر كذلك لكان يلزمهم أن يصير الله محجوباً في يد أولئك المعبودين، ومعلوم أنه ليس الغرض ذلك بل الغرض أن يصير الكافر محجوجاً مفحماً ملزماً هذا تمام تقرير المعتزلة في الآية/ أجاب أصحابنا بأن القدرة على الضلال إن لم تصلح للاهتداء فالإضلال من الله تعالى، وإن صلحت له لم تترجح مصدريتها للإضلال على مصدريتها للاهتداء إلا لمرجح من الله تعالى، وعند / لذلك يعود السؤال، وأما ظاهر هذه الآية فهو وإن كان لهم لكنه معارض بسائر الظواهر المطابقة لقولنا.
المسألة الرابعة : ظاهر الآية يدل على أن هذا السؤال من الله تعالى وإن احتمل أن يكون ذلك من الملائكة بأمر الله تعالى. بقي على الآية سؤالات.
الأول : ما فائدة أنتم وهم ؟
وهلا قيل أأضللتم عبادي هؤلاء أم ضلوا السبيل ؟
الجواب : ليس السؤال عن الفعل ووجوده، لأنه لولا وجوده لما توجه هذا العتاب، وإنما هو عن فاعله فلا بد من ذكره وإيلائه حرف الاستفهام حتى يعلم أنه المسؤول عنه.
السؤال الثاني : أنه سبحانه كان عالماً في الأزل بحال المسؤول عنه فما فائدة هذا السؤال ؟
الجواب : هذا استفهام على سبيل التقريع للمشركين كما قال لعيسى :﴿قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمِّىَ إِلَـاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّه قَالَ﴾ (المائدة : ١١٦) ولأن أولئك المعبودين لما برؤا أنفسهم، وأحالوا ذلك الضلال عليهم صار تبرؤ المعبودين عنهم أشد في حسرتهم وحيرتهم.
السؤال الثالث : قال تعالى :﴿أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ﴾ والقياس أن يقال ضل عن السبيل، الجواب : الأصل ذلك، إلا أن الإنسان إذا كان متناهياً في التفريط وقلة الاحتياط، يقال ضل السبيل.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٥٢
أما قوله :﴿سُبْحَـانَكَ﴾ فاعلم أنه سبحانه حكى جوابهم، وفي قوله :﴿سُبْحَـانَكَ﴾ وجوه : أحدها : أنه تعجب منهم فقد تعجبوا مما قيل لهم لأنهم ملائكة وأنبياء معصومون فما أبعدهم عن الإضلال الذي هو مختص بإبليس وحزبه وثانيها : أنهم نطقوا بسبحانك ليدلوا على أنهم المسبحون (المقدسون المؤمنون) بذلك فكيف يليق بحالهم أن يضلوا عباده وثالثها : قصدوا به تنزيهه عن الأنداد، سواء كان وثناً أو نبياً أو ملكاً ورابعها : قصدوا تنزيهه أن يكون مقصوده من هذا السؤال استفادة علم أو إيذاء من كان بريئاً عن الجرم، بل إنه إنما سألهم تقريعاً للكفار وتوبيخاً لهم.
أما قوله :﴿مَا كَانَ يَنابَغِى لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ﴾ ففيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon