أما قوله :﴿كَذَالِكَ﴾ ففيه وجهان : الأول : أنه من تمام كلام المشركين أي جملة واحدة كذلك أي كالتوراة والإنجيل، وعلى هذا لا يحتاج إلى إضمار في الآية وهو أن يقول : أنزلناه مفرقاً لتثبت به فؤادك الثاني : أنه كلام الله تعالى ذكره جواباً لهم أي كذلك أنزلناه مفرقاً فإن قيل : ذلك في ﴿كَذَالِكَ﴾ يجب أن يكون إشارة إلى شيء تقدمه والذي تقدم فهو إنزاله جملة (واحدة) فكيف فسر به كذلك أنزلناه مفرقاً ؟
قلنا لأن قولهم ﴿لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ﴾ معناه لم نزل مفرقاً فذلك إشارة إليه.
أما قوله تعالى :﴿وَرَتَّلْنَـاهُ تَرْتِيلا﴾ فمعنى الترتيل في الكلام أن يأتي بعضه على أثر بعض على تؤدة وتمهل وأصل الترتيل في الأسنان وهو تفلجها يقال ثغر رتل وهو ضد المتراص، ثم إنه سبحانه وتعالى لما بين فساد قولهم بالجواب الواضح قال :﴿وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ﴾ من الجنس الذي تقدم ذكره من الشبهات إلا جئناك بالحق الذي يدفع قولهم، كما قال تعالى :﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَـاطِلِ فَيَدْمَغُه فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ﴾ (الأنبياء : ١٨) وبين أن الذي يأتي به أحسن تفسيراً لأجل ما فيه من المزية في البيان والظهور، ولما كان التفسير هو الكشف عما يدل عليه الكلام وضع موضع معناه، فقالوا تفسير هذا الكلام كيت وكيت كما قيل معناه كذا وكذا.
أما قوله :﴿الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم :"يحشر الناس على ثلاثة أصناف صنف على الدواب وصنف على الأقدام وصنف على الوجوه" وعنه عليه السلام :"إن الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن مشيهم على وجوههم".
المسألة الثانية : الأقرب أنه صفة للقوم الذين أوردوا هذه الأسئلة على سبيل التعنت، وإن كان غيرهم من أهل النار يدخل معهم.
المسألة الثالثة : حمله بعضهم على أنهم يمشون في الآخرة مقلوبين، وجوههم إلى القرار وأرجلهم إلى فوق، روي ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلّم وقال آخرون المراد أنهم يحشرون ويسحبون على وجوههم، وهذا أيضاً مروي عن الرسول عليه الصلاة والسلام وهو أولى، وقال الصوفية : الذين تعلقت قلوبهم بما سوى الله فإذا ماتوا بقي ذلك التعلق فعبر عن تلك الحالة بأنهم يحشرون على وجوههم إلى جهنم، ثم بين تعالى أنهم شر مكاناً من أهل الجنة وأضل سبيلاً وطريقاً، والمقصود منه الزجر عن طريقهم والسؤال عليه كما ذكرناه على قوله :﴿أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ يَوْمَـاـاِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا﴾ (الفرقان : ٢٤) وقد تقدم الجواب عنه.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٥٩
واعلم أنه تعالى بعد أن تكلم في التوحيد ونفي الأنداد وإثبات النبوة والجواب عن شبهات المنكرين لها وفي أحوال القيامة شرع في ذكر القصص على السنة المعلومة.
القصة الأولى ـ قصة موسى عليه السلام
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٥٩
٤٥٩
اعلم أنه تعالى لما قال :﴿وَكَذَالِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا﴾ (الفرقان : ٣١) أتبعه بذكر جماعة من الأنبياء وعرفه بما نزل بمن كذب من أممهم فقال :﴿وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ وَجَعَلْنَا مَعَه ا أَخَاهُ هَـارُونَ وَزِيرًا﴾ والمعنى : لست يا محمد بأول من أرسلناه فكذب، وآتيناه الآيات فرد، فقد آتينا موسى التوراة وقوينا عضده بأخيه هرون ومع ذلك فقد رد، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : كونه وزيراً لا يمنع من كونه شريكاً له في النبوة، فلا وجه لقول من قال في قوله :﴿فَقُلْنَا اذْهَبَآ﴾ إنه خطاب لموسى عليه السلام وحده بل يجري مجرى قوله :﴿اذْهَبَآ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّه طَغَى ﴾ (طه : ٤٣) فإن قيل إن كونه وزيراً كالمنافي لكونه شريكاً بل يجب أن يقال إنه لما صار شريكاً خرج عن كونه وزيراً، قلنا لا منافاة بين الصفتين لأنه لا يمتنع أن يشركه في النبوة ويكون وزيراً وظهيراً ومعيناً له.
المسألة الثانية : قال الزجاج الوزير في اللغة الذي يرجع إليه ويتحصن برأيه والوزر ما يعتصم به ومنه ﴿كَلا لا وَزَرَ﴾ (القيامة : ١١) أي لا منجى ولا ملجأ، قال القاضي : ولذلك لا يوصف تعالى بأن له وزيراً ولا يقال فيه أيضاً بأنه وزير لأن الالتجاء إليه في المشاورة والرأي على هذا الحد لا يصح.
المسألة الثالثة :﴿دَمَّرْنَـاهُمْ﴾ أهلكناهم إهلاكاً فإن قيل : الفاء للتعقيب والإهلاك لم يحصل عقيب ذهاب موسى وهرون إليهم بل بعد مدة مديدة، قلنا : التعقيب محمول ههنا على الحكم لا على الوقوع، وقيل : إنه تعالى أراد اختصار القصة فذكر حاشيتيها أولها وآخرها لأنهما المقصود من القصة بطولها أعني إلزام الحجة ببعثة الرسل واستحقاق التدمير بتكذيبهم.


الصفحة التالية
Icon