الرابع : نظير هذه الآية قوله تعالى :﴿لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾ (الغاشية : ٢٢) وقوله :﴿وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ ﴾ (ق : ٤٥) وقوله :﴿لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ ﴾ (البقرة : ٢٥٦) قال الكلبي : نسختها آية القتال وثالثها : قوله :﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ﴾ أم ههنا منقطعة، معناه بل تحسب، وذلك يدل على أن هذه المذمة أشد من التي تقدمتها حتى حقت بالإضراب عنها إليها، وهي كونهم مسلوبي الأسماع والعقول، لأنهم لشدة عنادهم لا يصغون إلى الكلام، وإذا سمعوه لا يتفكرون فيه، فكأنه ليس لهم عقل ولا سمع ألبتة، فعند ذلك شبههم بالأنعام في عدم انتفاعهم بالكلام وعدم إقدامهم على التدبر والتفكر وإقبالهم على اللذات الحاضرة الحسية وإعراضهم عن طلب السعادات الباقية العقلية وها هنا سؤالات :
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٧٣
السؤال الأول : لم قال :﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ﴾ فحكم بذلك على الأكثر دون الكل ؟
والجواب : لأنه كان فيهم من يعرف الله تعالى ويعقل الحق، إلا أنه ترك الإسلام لمجرد حب الرياسة لا للجهل.
السؤال الثاني : لم جعلوا أضل من الأنعام ؟
الجواب : من وجوه : أحدها : أن الأنعام تنقاد لأربابها وللذي يعلفها ويتعهدها وتميز بين من يحسن إليها وبين من يسيء إليها، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يميزون بين إحسانه إليهم وبين إساءة الشيطان إليهم الذين هو عدو لهم، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع/ ولا يحترزون من العقاب الذي هو أعظم المضار وثانيها : أن قلوب الأنعام كما أنها تكون خالية عن العلم فهي / خالية عن الجهل الذي هو اعتقاد المعتقد على خلاف ما هو عليه مع التصميم. وأما هؤلاء فقلوبهم كما خلت عن العلم فقد اتصفت بالجهل فإنهم لا يعلمون ولا يعلمون أنهم لا يعلمون، بل هم مصرون على أنهم يعلمون وثالثها : أن عدم علم الأنعام لا يضر بأحد أما جهل هؤلاء فإنه منشأ للضرر العظيم، لأنهم يصدون الناس عن سبيل الله ويبغونها عوجاً ورابعها : أن الأنعام لا تعرف شيئاً ولكنهم عاجزون عن الطلب وأما هؤلاء الجهال فإنهم ليسوا عاجزين عن الطلب، والمحروم عن طلب المراتب العالية إذا عجز عنه لا يكون في استحقاق الذم كالقادر عليه التارك له لسوء اختياره وخامسها : أن البهائم لا تستحق عقاباً على عدم العلم، أما هؤلاء فإنهم يستحقون عليه أعظم العقاب وسادسها : أن البهائم تسبح الله تعالى على مذهب بعض الناس على ما قال ﴿وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدَه ﴾ (الأسراء : ٤٤) وقال :﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَه مَن فِى السَّمَـاوَاتِ﴾ إلى قوله :﴿وَالدَّوَآبِّ﴾ (الحج : ١٨) وقال :﴿وَالطَّيْرُ صَـا فَّـاتٍا كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَه وَتَسْبِيحَه ﴾ (النور : ٤١) وإذا كان كذلك فضلال الكفار أشد وأعظم من ضلال هذه الأنعام.
السؤال الثالث : أنه سبحانه لما نفى عنهم السمع والعقل، فكيف ذمهم على الإعراض عن الدين وكيف بعث الرسول إليهم فإن من شرط التكليف العقل ؟
الجواب : ليس المراد أنهم لا يعقلون بل إنهم لا ينتفعون بذلك العقل، فهو كقول الرجل لغيره إذا لم يفهم إنما أنت أعمى وأصم.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٧٣
٤٧٤
اعلم أنه تعالى لما بين جهل المعرضين عن دلائل الله تعالى وفساد طريقهم في ذلك ذكر بعده أنواعاً من الدلائل الدالة على وجود الصانع.
النوع الأول : الاستدلال بحال الظل في زيادته ونقصانه وتغيره من حال إلى حال، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله :﴿أَلَمْ تَرَ﴾ فيه وجهان : أحدهما : أنه من رؤية العين والثاني : أنه من رؤية القلب يعني العلم، فإن حلمناه على رؤية العين فالمعنى أم تر إلى الظل كيف مده ربك وإن كان تخريج لفظه على عادة العرب أفصح وإن حملناه على العلم وهو اختيار الزجاج، فالمعنى ألم تعلم وهذا أولى وذلك أن الظل إذا جعلناه من المبصرات فتأثير قدرة الله تعالى في تمديده غير مرئي بالاتفاق، ولكنه معلوم من حيث إن كل متغير جائز فله مؤثر فحمل هذا اللفظ على رؤية القلب أولى من هذا الوجه.
المسألة الثانية : المخاطب بهذا الخطاب وإن كان هو الرسول عليه السلام بحسب ظاهر اللفظ ولكن الخطاب عام في المعنى، لأن المقصود من الآية بيان نعم الله تعالى بالظل، وجميع المكلفين مشتركون في أنه يجب تنبههم لهذه النعمة وتمكنهم من الاستدلال بها على وجود الصانع.
المسألة الثالثة : الناس أكثروا في تأويل هذه الآية والكلام الملخص يرجع إلى وجهين :
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٧٤


الصفحة التالية
Icon