أما قوله تعالى :﴿أَن يَذَّكَّرَ﴾ فقراءة العامة بالتشديد وقراءة حمزة بالتخفيف وعن أبي بن كعب (يتذكر)، والمعنى لينظر الناظر في اختلافهما فيعلم أنه لا بد في انتقالهما من حال إلى حال (وتغيرهما) من ناقل ومغير وقوله :﴿أَن يَذَّكَّرَ﴾ راجع إلى كل ما تقدم من النعم، بين تعالى أن الذين قالوا وما الرحمن لو تفكروا في هذه النعم وتذكروها لاستدلوا بذلك على عظيم قدرته، ولشكر الشاكرين على النعمة فيهما من السكون بالليل والتصرف بالنهار كما قال تعالى :﴿وَمِن رَّحْمَتِه جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبتَغُوا مِن فَضْلِه ﴾ (القصص : ٧٣) أو ليكونا وقتين للمتذكرين والشاكرين، من فاته في أحدهما ورد من العبادة قام به في الآخر، والشكور مصدر شكر يشكر شكوراً.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٨٣
٤٨٥
اعلم أن قوله :﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَـانِ﴾ مبتدأ خبره في آخر السورة كأنه قيل وعباد الرحمن الذين هذه صفاتهم أولئك يجزون الغرفة، ويجوز أن يكون خبره ﴿الَّذِينَ يَمْشُونَ﴾، واعلم أنه سبحانه خص اسم العبودية بالمشتغلين بالعبودية، فدل ذلك على أن هذه الصفة من أشرف صفات المخلوفات، وقرىء ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَـانِ﴾ واعلم أنه سبحانه وصفهم بتسعة أنواع من الصفات :
الصفة الأولى : قوله :﴿الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الارْضِ هَوْنًا﴾ وهذا وصف سيرتهم بالنهار وقرىء ﴿يَمْشُونَ﴾ ﴿هَوْنًا﴾ حال أو صفة للمشي بمعنى هينين أو بمعنى مشياً هيناً، إلا أن في وضع المصدر موضع الصفة مبالغة، والهون الرفق واللين ومنه الحديث "أحبب حبيبك هوناً ما" وقوله :"المؤمنون هينون لينون" والمعنى أن مشيهم يكون في لين وسكينة ووقار وتواضع، ولا يضربون بأقدامهم (ولا يخفقون بنعالهم) أشراً وبطراً، ولا يتبخترون لأجل الخيلاء كما قال :﴿وَلا تَمْشِ فِى الارْضِ مَرَحًا ﴾ (الإسراء : ٣٧) وعن زيد بن / أسلم التمست تفسير ﴿هَوْنًا﴾ فلم أجد، فرأيت في النوم فقيل لي هم الذين لا يريدون الفساد في الأرض، وعن ابن زيد لا يتكبرون ولا يتجبرون ولا يريدون علواً في الأرض.
الصفة الثانية : قوله تعالى :﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَـاهِلُونَ قَالُوا سَلَـامًا﴾ معناه لا نجاهلكم ولا خير بيننا ولا شر أي نسلم منكم تسليماً، فأقيم السلام مقام التسليم، ثم يحتمل أن يكون مرادهم طلب السلامة والسكوت، ويحتمل أن يكون المراد التنبيه على سوء طريقتهم لكي يمتنعوا، ويحتمل أن يكون مرادهم العدول عن طريق المعاملة، ويحتمل أن يكون المراد إظهار الحلم في مقابلة الجهل، قال الأصم :﴿قَالُوا سَلَـامًا﴾ أي سلام توديع لا تحية، كقول إبراهيم لأبيه :﴿سَلَـامٌ عَلَيْكَ ﴾ (مريم : ٤٧) ثم قال الكلبي وأبو العالية نسختها آية القتال ولا حاجة إلى ذلك لأن الإغضاء عن السفهاء وترك المقابلة مستحسن في العقل والشرع وسبب لسلامة العرض والورع.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٨٥
الصفة الثالثة : قوله :﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَـامًا﴾ واعلم أنه تعالى لما ذكر سيرتهم في النهار من وجهين : أحدهما : ترك الإيذاء، وهو المراد من قوله :﴿يَمْشُونَ عَلَى الارْضِ هَوْنًا﴾ والآخر تحمل التأذي، وهو المراد من قوله :﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَـاهِلُونَ قَالُوا سَلَـامًا﴾ فكأنه شرح سيرتهم مع الخلق في النهار، فبين في هذه الآيات سيرتهم في الليالي عند الاشتغال بخدمة الخالق وهو كقوله :﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾ (السجدة : ١٦) ثم قال الزجاج : كل من أدركه الليل قيل بات وإن لم ينم كما يقال بات فلان قلقاً، ومعنى ﴿يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ﴾ أن يكونوا في لياليهم مصلين، ثم اختلفوا فقال بعضهم : من قرأ شيئاً من القرآن في صلاة وإن قل، فقد بات ساجداً وقائماً، وقيل ركعتين بعد المغرب وأربعاً بعد العشاء الأخيرة، والأولى أنه وصف لهم بإحياء الليل أو أكثره يقال فلان يظل صائماً ويبيت قائماً، قال الحسن يبيتون لله على أقدمهم ويفرشون له وجوههم تجري دموعهم على خدودهم خوفاً من ربهم.


الصفحة التالية
Icon