اعلم أنه تعالى لما حكى عن موسى عليه السلام قوله :﴿إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ﴾ (الشعراء : ٦٢) بين تعالى بعده كيف هداه ونجاه، وأهلك أعداءه بذلك التدبير الجامع لنعم الدين والدنيا، فقال :﴿فَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى ا أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَا فَانفَلَقَ﴾ ولا شبهة في أن المراد فضرب فانفلق لأنه كالمعلوم من الكلام إذ لا يجوز أن ينفلق من غير ضرب ومع ذلك يأمره بالضرب لأنه كالعبث ولأنه تعالى جعله من معجزاته التي ظهرت بالعصا ولأن انفلاقه بضربه أعظم في النعمة عليه، وأقوى لعلمهم أن ذلك إنما حصل لمكان موسى عليه السلام، واختلفوا في البحر، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن موسى عليه السلام لما انتهى إلى البحر مع بني إسرائيل أمرهم أن يخوضوا البحر فامتنعوا إلا يوشع بن نون فإنه ضرب دابته وخاض في البحر حتى عبر ثم رجع إليهم فأبوا أن يخوضوا فقال موسى للبحر انفرق لي فقال ما أمرت بذلك ولا يعبر عن العصاة، فقال موسى يا رب قد أبى البحر أن ينفرق، فقيل له اضرب بعصاك البحر فضربه فانفرق فكان كل فرق كالطود العظيم أي كالجبل العظيم وصار فيه اثنا عشر طريقاً لكل سبط منهم طريق فقال كل سبط قتل أصحابنا فعند ذلك دعا موسى عليه السلام ربه فجعلها مناظر كهيئة الطبقات حتى نظر بعضهم إلى بعض على أرض يابسة، وعن عطاء بن السائب أن جبريل عليه السلام كان بين بني إسرائيل وبين آل فرعون وكان يقول لبني إسرائيل ليلحق آخركم بأولكم، ويستقبل القبط فيقول رويدكم ليلحق آخركم، وروي أن موسى عليه السلام قال عند ذلك :"يا من كان قبل كل شيء والمكون لكل شيء والكائن بعد كل شيء".
فأما قوله :﴿فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾ فالفرق الجزء المنفرق منه، وقرىء (كل فلق) والمعنى واحد والطود الجبل المتطاول أي المرتفع في السماء وهو معجز من وجوه : أحدها : أن تفرق ذلك الماء معجز وثانيها : أن اجتماع ذلك الماء فوق كل طرف منه حتى صار كالجبل من المعجزات أيضاً لأنه كان لا يمتنع في الماء الذي أزيل بذلك التفريق أن يبدده الله تعالى حتى يصير كأنه لم يكن فلما جمع على الطرفين صار مؤكداً لهذا الإعجاز وثالثها : أنه إن ثبت ما روي في الخبر أنه تعالى أرسل على فرعون وقومه من الرياح والظلمة ما حيرهم فاحتبسوا القدر الذي يتكامل معه عبور بني إسرائيل فهو معجز ثالث ورابعها : أن جعل الله في تلك الجدران المائية كوى ينظر منها بعضهم إلى بعض فهو معجز رابع وخامسها : أن أبقى الله تعالى تلك المسالك حتى قرب منها آل فرعون وطمعوا أن يتخلصوا من البحر كما تخلص قوم موسى عليه السلام فهو معجز خامس.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥١١
أما قوله تعالى :﴿وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الاخَرِينَ﴾ ففيه بحثان :
البحث الأول : قال ابن عباس وابن جريج وقتادة والسدي ﴿وَأَزْلَفْنَا﴾ أي وقربنا ثم أي حيث انفلق البحر للآخرين قوم فرعون ثم فيه ثلاثة أوجه : أحدها : قربناهم من بني إسرائيل وثانيها : قربنا بعضهم من بعض وجمعناهم حتى لا ينجو منهم أحد وثالثها : قدمناهم إلى البحر ومن الناس من قال :﴿وَأَزْلَفْنَا﴾ أي حبسنا فرعون وقومه عنذ طلبهم موسى عليه السلام بأن أظلمنا عليهم الدنيا بسحابة وقفت عليهم فوقفوا حيارى/ وقرىء بالقاف أي أزللنا أقدامهم / والمعنى أذهبنا عزهم ويحتمل أن يجعل الله طريقهم في البحر على خلاف ما جعله لبني إسرائيل يبساً وأزلقهم.
البحث الثاني : أنه تعالى أضاف ذلك الإزلاف إلى نفسه مع أن اجتماعهم هنالك في طلب موسى كفر أجاب الجبائي عنه من وجهين : الأول : أن قوم فرعون تبعوا بني إسرائيل وبنو إسرائيل إنما فعلوا ذلك بأمر الله تعالى فلما كان مسيرهم بتدبيره وهؤلاء تبعوا ذلك أضافه إلى نفسه توسعاً وهذا كما يتعب أحدنا في طلب غلام له فيجوز أن يقول أتعبني الغلام لما حدث ذلك فعله الثاني : قيل :﴿الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الاخَرِينَ﴾ أي أزلفناهم إلى الموت لأجل أنهم في ذلك الوقت قربوا من أجلهم وأنشد :
وكل يوم مضى أو ليلة سلفت
فيها النفوس إلى الآجال تزدلف


الصفحة التالية
Icon