﴿وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ﴾ وقد دخل فيه كل ما يتصل بنافع الرزق، وذلك لأنه سبحانه إذا خلق له الطعام وملكه، فلو لم يكن معه ما يتمكن به من أكله والاغتذاء به نحو الشهوة والقوة / والتمييز لم تكمل هذه النعمة، وذكر الطعام والشراب ونبه بذكرهما على ما عداهما وثالثها : قوله :﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ وفيه سؤال وهو أنه لم قال :﴿مَرِضْتُ﴾ دون أمرضني ؟
وجوابه من وجوه : الأول : أن كثيراً من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك، ومن ثم قالت الحكماء : لو قيل لأكثر الموتى ما سبب آجالكم ؟
لقالوا التخم الثاني : أن المرض إنما يحدث باستيلاء بعض الأخلاط على بعض، وذلك الاستيلاء إنما يحصل بسبب ما بينها من التنافر الطبيعي. أما الصحة فهي إنما تحصل عند بقاء الأخلاط على اعتدالها وبقاؤها على اعتدالها، إنما يكون بسبب قاهر يقهرها على الاجتماع، وعودها إلى الصحة إنما يكون أيضاً بسبب قاهر يقهرها على العود إلى الاجتماع والاعتدال بعد أن كانت بطباعها مشتاقة إلى التفرق والنزاع، فلهذا السبب أضاف الشفاء إليه سبحانه وتعالى، وما أضاف المرض إليه وثالثها : وهو أن الشفاء محبوب وهو من أصول النعم، والمرض مكروه وليس من النعم، وكان مقصود إبراهيم عليه السلام تعديد النعم، ولما لم يكن المرض من النعم لا جرم لم يضفه إليه تعالى، فإن نقضته بالإماتة فجوابه : أن الموت ليس بضرر، لأن شرط كونه ضرراً وقوع الإحساس به، وحال حصول الموت لا يقع الإحساس به، إنما الضرر في مقدماته وذلك هو عين المرض، وأيضاً فلأنك قد عرفت أن الأرواح إذا كملت في العلوم والأخلاق كان بقاؤها في هذه الأجساد عين الضرر وخلاصتها عنها عين السعادة بخلاف المرض ورابعها : قوله :﴿وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ﴾ والمراد منه الإماتة في الدنيا والتخلص عن آفاتها وعقوباتها، والمراد من الإحياء المجازاة وخامسها : قوله :﴿وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِى ئَتِى يَوْمَ الدِّينِ﴾ فهو إشارة إلى ما هو مطلوب كل عاقل من الخلاص عن العذاب والفوز بالثواب.
واعلم أن إبراهيم عليه السلام جمع في هذه الألفاظ جميع نعم الله تعالى من أول الخلق إلى آخر الأبد في الدار الآخرة، ثم ههنا أسئلة :
السؤال الأول : لم قال :﴿وَالَّذِى أَطْمَعُ﴾ والطمع عبارة عن الظن والرجاء، وإنه عليه السلام كان قاطعاً بذلك ؟
جوابه : أن هذا الكلام لا يستقيم إلا على مذهبنا، حيث قلنا إنه لا يجب على الله لأحد شيء، وأنه يحسن منه كل شيء ولا اعتراض لأحد عليه في فعله، وأجاب الجبائي عنه من وجهين : الأول : أن قوله :﴿وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِى ئَتِى﴾ أراد به سائر المؤمنين لأنهم الذين يطمعون ولا يقطعون به الثاني : المراد من الطمع اليقين، وهو مروي عن الحسن وأجاب صاحب "الكشاف" : بأنه إنما ذكره على هذا الوجه تعليماً منه لأمته كيفية الدعاء.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥١٧
واعلم أن هذه الوجوه ضعيفة، أما الأول : فلأن الله تعالى حكى عنه الثناء أولاً والدعاء ثانياً ومن أول المدح إلى آخر الدعاء كلام إبراهيم عليه السلام فجعل الشيء الواحد وهو قوله :﴿وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِى ئَتِى يَوْمَ الدِّينِ﴾ كلام غيره مما يبطل نظم الكلام ويفسده/ وأما الثاني : وهو أن الطمع هو اليقين فهذا على خلاف اللغة، وأما الثالث : وهو أن الغرض منه تعليم / الأمة فباطل أيضاً لأن حاصله يرجع إلى أنه كذب على نفسه لغرض تعليم الأمة، وهو باطل قطعاً.
السؤال الثاني : لم أسند إلى نفسه الخطيئة مع أن الأنبياء منزعون عن الخطايا قطعاً ؟
، وفي جوابه ثلاثة وجوه : أحدها : أنه محمول على كذب إبراهيم عليه السلام في قوله :﴿فَعَلَه كَبِيرُهُمْ﴾ (الأنبياء : ٦٣) وقوله :﴿إِنِّى سَقِيمٌ﴾ (الصافات : ٨٩) وقوله لسارة :(إنها أختي) وهو ضعيف لأن نسبة الكذب إليه غير جائزة وثانيها : أنه ذكره على سبيل التواضع وهضم النفس وهذا ضعيف لأنه إن كان صادقاً في هذا التواضع فقد لزم الإشكال، وإن كان كاذباً فحينئذ يرجع حاصل الجواب إلى إلحاق المعصية به لأجل تنزيهه عن المعصية وثالثها : وهو الجواب الصحيح أن يحمل ذلك على ترك الأولى، وقد يسمى ذلك خطأ فإن من ملك جوهرة وأمكنه أن يبيعها بألف ألف دينار فإن باعها بدينار، قيل إنه أخطأ، وترك الأولى على الأنبياء جائز.
السؤال الثالث : لم علق مغفرة الخطيئة بيوم الدين، وإنما تغفر في الدنيا ؟
جوابه : لأن أثرها يظهر يوم الدين وهو الآن خفي لا يعلم.


الصفحة التالية
Icon