التأويل الأول : أنه عليه السلام ابتدأ بطلب ما هو الكمال الذاتي للإنسان في الدنيا والآخرة وهو طلب الحكم الذي هو العلم، ثم طلب بعده كمالات الدنيا وبعد ذلك طلب كمالات الآخرة، فأما كمالات الدنيا فبعضها داخلية وبعضها خارجية، أما الداخلية فهي الخلق الظاهر والحلق الباطن والحلق الظاهر أشد جسمانية والخلق الباطن أشد روحانية، فترك إبراهيم عليه السلام الأمر الجسماني وهو الخلق الظاهر وطلب الأمر الروحاني وهو الخلق الباطن، وهو المراد بقوله :﴿وَأَلْحِقْنِى بِالصَّـالِحِينَ﴾ وأما الخارجية فهي المال والجاه، والمال أشد جسمانية والجاه أشد روحانية فترك إبراهيم عليه السلام الأمر الجسماني وهو المال وطلب الأمر الروحاني وهو الجاه والذكر الجميل الباقي على وجه الدهر، وهو المراد بقوله :﴿وَاجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاخِرِينَ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما وقد أعطاه ذلك بقوله :﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاخِرِينَ﴾ فإن قيل وأي غرض له في أن يثني عليه ويمدح ؟
جوابه من وجهين : الأول : وهو على لسان الحكمة أن الأرواح البشرية قد بينا أنها مؤثرة في الجملة إلا أن بعضها قد يكون ضعيفاً فيعجز عن التأثير فإذا اجتمعت طائفة منها فربما قوي مجموعها على ما عجزت الآحاد عنه، وهذا المعنى مشاهد في المؤثرات الجسمانية، إذا ثبت هذا فالإنسان الواحد إذا كان بحيث يثنى عليه الجمع العظيم ويمدحونه ويعظمونه، فربما صار انصراف هممهم عند الاجتماع إليه سبباً لحصول زيادة كمال له الثاني : وهو على لسان الكمال أن من صار ممدوحاً فيما بين الناس بسبب ما عنده من الفضائل، فإنه يصير ذلك المدح وتلك الشهرة داعياً لغيره إلى اكتساب مثل تلك الفضائل.
التأويل الثاني : أنه سأل ربه أن يجعل من ذريته في آخر الزمان من يكون داعياً إلى الله تعالى، وذلك هو محمد صلى الله عليه وسلّم فالمراد من قوله :﴿وَاجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاخِرِينَ﴾ بعثة محمد صلى الله عليه وسلّم.
التأويل الثالث : قال بعضهم المراد اتفاق أهل الأديان على حبه، ثم إن الله تعالى أعطاه ذلك لأنك لا ترى أهل دين إلا ويتوالون إبراهيم عليه السلام، وقدح بعضهم فيه بأنه لا تقوى الرغبة في مدح الكافر وجوابه : أنه ليس المقصود مدح الكافر من حيث هو كافر، بل المقصود أن يكون ممدوح كل إنسان ومحبوب كل قلب.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥١٩
المطلوب الثالث : قوله :﴿وَاجْعَلْنِى مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ﴾ اعلم أنه لما طلب سعادة الدنيا / طلب بعدها سعادة الآخرة وهي جنة النعيم، وشبهها بما يورث لأنه الذي يغتنم في الدنيا، فشبه غنيمة الآخرة بغنيمة الدنيا.
المطلوب الرابع : قوله :﴿وَاغْفِرْ لابِى ا إِنَّه كَانَ مِنَ الضَّآلِّينَ﴾ واعلم أنه لما فرغ من طلب السعادات الدنيوية والأخروية لنفسه طلبها لأشد الناس التصاقاً به وهو أبوه فقال :﴿وَاغْفِرْ لابِى ﴾ ثم فيه وجوه : الأول : أن المغفرة مشروطة بالإسلام وطلب المشروط متضمن لطلب الشرط فقوله :﴿وَاغْفِرْ لابِى ﴾ يرجع حاصله إلى أنه دعاء لأبيه بالإسلام الثاني : أن أباه وعده الإسلام كما قال تعالى :﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لابِيهِ إِلا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ﴾ (التوبة : ١١٤) فدعا له لهذا الشرط ولا يمتنع الدعاء للكافر على هذا الشرط ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَه ا أَنَّه عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْه ﴾ (التوبة : ١١٤) وهذا ضعيف لأن الدعاء بهذا الشرط جائز للكافر فلو كان دعاؤه مشروطاً لما منعه الله عنه الثالث : أن أباه قال له إنه على دينه باطناً وعلى دين نمروذ ظاهراً تقية وخوفاً، فدعا له لاعتقاده أن الأمر كذلك فلما تبين له خلاف ذلك تبرأ منه، لذلك قال في دعائه :﴿إِنَّه كَانَ مِنَ الضَّآلِّينَ﴾ فلولا اعتقاده فيه أنه في الحال ليس بضال لما قال ذلك.
المطلوب الخامس : قوله :﴿وَلا تُخْزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ﴾ قال صاحب "الكشاف" : الإخزاء من الخزي وهو الهوان، أو من الخزاية وهي الحياء وههنا أبحاث :
أحدها : أن قوله :﴿وَلا تُخْزِنِى﴾ يدل على أنه لا يجب على الله تعالى شيء على ما بيناه في قوله :﴿وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِى ئَتِى يَوْمَ الدِّينِ﴾ (الشعراء : ٨٢).
وثانيها : أن لقائل أن يقول لما قال أولاً :﴿وَاجْعَلْنِى مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ﴾ ومتى حصلت الجنة، امتنع حصول الخزي، فكيف قال بعده :﴿وَلا تُخْزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ﴾ وأيضاً فقد قال تعالى :﴿إِنَّ الْخِزْىَ الْيَوْمَ وَالسُّواءَ عَلَى الْكَـافِرِينَ﴾ (النحل : ٢٧) فما كان نصيب الكفار فقط فكيف يخافه المعصوم ؟
جوابه : كما أن حسنات الأبرار سيئات المقربين فكذا درجات الأبرار دركات المقربين وخزي كل واحد بما يليق به.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥١٩
وثالثها : قال صاحب "الكشاف" : في (يبعثون) ضمير العباد لأنه معلوم أو ضمير الضالين.


الصفحة التالية
Icon