واعلم أن القوم إنما قبلوا تلك الأديان للتقليد والمقلد إذا خوف خاف، وما لم يحصل الخوف في قلبه لا يشتغل بالاستدلال، فلهذا السبب قدم على جميع كلماته قوله :﴿أَلا تَتَّقُونَ﴾. وأما وصفه نفسه فذاك بأمرين : أحدهما : قوله :﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾ وذلك لأنه كان فيهم مشهوراً بالأمانة كمحمد صلى الله عليه وسلّم في قريش فكأنه قال كنت أميناً من قبل، فكيف تتهموني اليوم ؟
وثانيهما : قوله :﴿وَمَآ أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ﴾ أي على ما أنا فيه من ادعاء الرسالة لئلا يظن به أنه دعاهم للرغبة، فإن قيل : ولماذا كرر الأمر بالتقوى ؟
جوابه : لأنه في الأول أراد ألا تتقون مخالفتي وأنا رسول الله، وفي الثاني : ألا تتقون مخالفتي ولست آخذ منكم أجراً فهو في المعنى مختلف ولا تكرار فيه، وقد يقول الرجل لغيره : ألا تتقي الله في عقوقي وقد ربيتك صغيراً! ألا تتقي الله في / عقوقي وقد علمتك كبيراً، وإنما قدم الأمر بتقوى الله تعالى على الأمر بطاعته، لأن تقوى الله علة لطاعته فقدم العلة على المعلول، ثم إن نوحاً عليه السلام لما قال لهم ذلك أجابوه بقولهم :﴿أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الارْذَلُونَ﴾.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٢٤
قال صاحب "الكشاف" : وقرى ﴿وَاتَّبَعَكَ الارْذَلُونَ﴾ جمع تابع كشاهد وأشهاد أو جمع تبع كبطل وأبطال والواو للحال وحقها أن يضمر بعدها قد في ﴿وَاتَّبَعَكَ﴾ وقد جمع ألأرذل على الصحة وعلى التكسير في قولهم :﴿الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا﴾ (هود : ٢٧) والرذالة الخسة، وإنما استرذلوهم لاتضاع نسبهم وقلة نصيبهم من الدنيا، وقيل كانوا من أهل الصناعات الخسيسة كالحياكة والحجامة.
واعلم أن هذه الشبهة في نهاية الركاكة، لأن نوحاً عليه السلام بعث إلى الخلق كافة، فلا يختلف الحال في ذلك بسبب الفقر والغنى وشرف المكاسب ودناءتها، فأجابهم نوع عليه السلام بالجواب الحق وهو قوله :﴿وَمَا عِلْمِى بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ وهذا الكلام يدل على أنهم نسبوهم مع ذلك إلى أنهم لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة، وإنما آمنوا بالهوى والطمع كما حكى الله تعالى عنهم في قوله :﴿الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرَّأْىِ﴾ (هود : ٢٧) ثم قال :﴿إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّى ﴾ معناه لا نعتبر إلا الظاهر من أمرهم دون ما يخفى، ولما قال :﴿إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّى ﴾ وكانوا لا يصدقون بذلك أردفه بقوله :﴿لَوْ تَشْعُرُونَ﴾ ثم قال :﴿وَمَآ أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وذلك كالدلالة على أن القوم سألوه إبعادهم لكي يتبعوه أو ليكونوا أقرب إلى ذلك، فبين أن الذي يمنعه عن طردهم أنهم آمنوا به ثم بين أن غرضه بما حمل من الرسالة يمنع من ذلك بقوله :﴿إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ والمراد إني أخوف من كذبني ولم يقبل مني، فمن قبل فهو القريب، ومن رد فهو البعيد، ثم إن نوحاً عليه السلام لما تمم هذا الجواب لم يكن منهم إلا التهديد، فقالوا :﴿لَـاـاِن لَّمْ تَنْتَهِ يَـانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ﴾ والمعنى أنهم خوفوه بأن يقتل بالحجارة، فعند ذلك حصل اليأس لنوح عليه السلام من فلاحهم، وقال :﴿رَبِّ إِنَّ قَوْمِى كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا﴾ وليس الغرض منه إخبار الله تعالى بالتكذيب لعلمه أن عالم الغيب والشهادة أعلم، ولكنه أراد إني لا أدعوك عليهم لما آذوني، وإنما أدعوك لأجلك ولأجل دينك ولأنهم كذبوني في وحيك ورسالتك ﴿فَافْتَحْ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ﴾ أي فاحكم بيني وبينهم والفتاحة الحكومة، والفتاح الحاكم لأنه يفتح المستغلق، والمراد من هذا الحكم إنزال العقوبة عليهم لأنه قال عقبه :﴿وَنَجِّنِى﴾ ولولا أن المراد إنزال العقوبة لما كان لذكر النجاة بعده معنى، وقد تقدم القول في قصته مشروحاً في سورة الأعراف وسورة هود.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٢٤
ثم قال تعالى :﴿فَأَنجَيْنَـاهُ وَمَن مَّعَه فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ قال صاحب "الكشاف" : الفلك السفينة وجمعه فلك قال تعالى :﴿وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ﴾ (فاطر : ١٢) فالواحد بوزن قفل والجمع بوزن أسد والمشحون المملوء يقال شحنها عليهم خيلاً ورجالاً، فدل ذلك على أن الذين نجوا معه كان فيهم كثرة، وأن / الفلك امتلأ بهم وبما صحبهم، وبين تعالى أنه بعد أن أنجاهم أغرق الباقين وأن إغراقه لهم كان كالمتأخر عن نجاتهم.
القصة الرابعة ـ قصة هود عليه السلام
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٢٤
٥٢٥


الصفحة التالية
Icon