الثاني : أن الله تعالى قد ينزل العذاب محنة للمكلفين وابتلاء لهم على ما قال :﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَـاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّـابِرِينَ﴾ (محمد : ٣١) ولأنه تعالى قد ابتلى المؤمنين بالبلاء العظيم في مواضع كثيرة وإذا كان كذلك لم يدل نزول البلاء بهم على كونهم مبطلين والجواب : أن الله / تعالى أنزل هذه القصص على محمد صلى الله عليه وسلّم تسلية وإزالة للحزن عن قلبه، فلما أخبر الله تعالى محمداً أنه هو الذي أنزل العذاب عليهم، وأنه إنما أنزله عليهم جزاء على كفرهم، على محمد صلى الله عليه وسلّم أن الأمر كذلك، فحينئذ يحصل به التسلية والفرح له عليه السلام، واحتج بعض الناس على القدح في علم الأحكام / بأن قال المؤثر في هذه الأشياء، إما الكواكب أو البروج أو كون الكوكب في البرج المعين، والأول باطل، وإلا لحصلت هذه الآثار أين حصل الكوكب والثاني أيضاً باطل، وإلا لزم دوام الأثر بدوام البرج والثالث أيضاً باطل، لأن الفلك على قولهم بسيط لا مركب فيكون طبع كل برج مساوياً لطبع البرج الآخر في تمام الماهية، فيكون حال الكوكب وهو في برجه كحاله وهو في برج آخر، فيلزم أن يدوم ذلك الأثر بدوام الكوكب، وللقوم أن يقولوا لم لا يجوز أن يكون صدور الأثر عن الكوكب المعين موقوفاً على كونه مسامتاً مسامتة مخصوصة لكوكب آخر، فإذا فقدت تلك المسامتة فقد شرط التأثير فلا يحصل التأثير ؟
ولهم أن يقولوا هذه الدلالة، إنما تدل على أنها ليست مؤثرة بحسب ذواتها وطبائعها، ولكنها لا تدل على أنها ليست مؤثرة بحسب جري العادة، فإذا أجرى الله تعالى عادته بحصول تأثيرات مخصوصة عقيب اتصالات الكواكب وقراناتها وأدوارها لم يلزم من حصول هذه الآثار القطع بأن الله تعالى إنما خلقها لأجل زجر الكفار بل لعله تعالى خلقها تكريراً لتلك العادات والله أعلم.
القول فيما ذكره الله تعالى من أحوال محمد عليه الصلاة والسلام
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٣٣
٥٣٤
اعلم أن الله تعالى لما ختم ما قتصه من خبر الأنبياء ذكر بعد ذلك ما يدل على نبوته صلى الله عليه وسلّم وهو من وجهين : الأول : قوله :﴿وَإِنَّه لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَـالَمِينَ﴾ وذلك لأنه لفصاحته معجز فيكون ذلك من رب العالمين، أو لأنه إخبار عن القصص الماضية من غير تعليم ألبتة، فلا يكون ذلك إلا بوحي من الله تعالى، وقوله بعده :﴿وَإِنَّه لَفِى زُبُرِ الاوَّلِينَ﴾ كأنه مؤكد لهذا الاحتمال، وذلك لأنه عليه السلام لما ذكر هذه القصص السبع على ما هي موجودة في زبر الأولين من غير تفاوت أصلاً مع أنه لم يشتغل بالتعلم والاستعداد، دل ذلك على أنه ليس إلا من عند الله تعالى، فهذا هو المقصود من الآية.
فأما قوله تعالى :﴿وَإِنَّه لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَـالَمِينَ﴾ فالمراد بالتنزيل المنزل، ثم قد كان يجوز في القرآن وهذه القصص أن يكون تنزيلاً من الله تعالى إلى محمد صلى الله عليه وسلّم بلا واسطة فقال :﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ﴾ والباء في قوله :﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ﴾ و﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ﴾ على القراءتين للتعدية، ومعنى ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ﴾ جعل الله الروح نازلاً به ﴿عَلَى قَلْبِكَ﴾ (حفظكه و) أي فهمك إياه وأثبته في قلبك إثبات ما لا ينسى كقوله تعالى :﴿سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى ﴾ (الأعلى : ٦) والروح الأمين جبريل عليه السلام وسماه روحاً من حيث خلق من الروح، وقيل لأنه نجاة الخلق في باب الدين فهو كالروح الذي تثبت معه الحياة، وقيل لأنه روح كله لا كالناس الذين في أبدانهم روح وسماه أميناً لأنه مؤتمن على ما يؤديه إلى الأنبياء عليهم السلام، وإلى غيرهم.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٣٤


الصفحة التالية
Icon