اعلم أن الله تعالى أعاد الشبهة المتقدمة وأجاب عنها من وجهين : الأول : قوله :﴿تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾ وذلك هو الذي قررناه فيما تقدم أن الكفار يدعون إلى طاعة الشيطان، ومحمداً عليه السلام كان يدعو إلى لعن الشيطان والبراءة عنه والثاني : قوله :﴿يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَـاذِبُونَ﴾ والمراد أنهم كان يقيسون حال النبي صلى الله عليه وسلّم على حال سائر الكهنة فكأنه قيل لهم إن كان الأمر على ما ذكرتم فكما أن الغالب على سائر الكهنة الكذب فيجب أن يكون حال الرسول صلى الله عليه وسلّم كذلك أيضاً، فلما لم يظهر في إخبار الرسول صلى الله عليه وسلّم عن المغيبات إلا الصدق علمنا أن حاله بخلاف حال الكهنة، ثم إن المفسرين ذكروا في الآية وجوهاً : أحدها : أنهم الشياطين روي أنهم كانوا قبل أن حجبوا بالرجم يسمعون إلى الملأ الأعلى فيختطفون بعض ما يتكلمون به مما طلعوا عليه من الغيوب، ثم يوحون به إلى أوليائهم ﴿وَأَكْثَرُهُمْ كَـاذِبُونَ﴾ فيما (يوحى) به إليهم، لأنهم يسمعونهم ما لم يسمعوا وثانيها : يلقون إلى أوليائهم السمع أي المسموع من الملائكة وثالثها : الأفاكون / يلقون السمع إلى الشياطين فيلقون وحيهم إليهم ورابعها : يلقون المسموع من الشياطين إلى الناس، وأكثر الأفاكين كاذبون يفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم، فإن قلت ﴿يُلْقُونَ﴾ ما محله ؟
قلت يجوز أن يكون في محل النصب على الحال أي تنزل ملقين السمع، وفي محل الجر صفة لكل أفاك لأنه في معنى الجمع، وأن لا يكون له محل بأن يستأنف كأن قائلاً قال : لم ننزل على الأفاكين ؟
فقيل يفعلون كيت وكيت، فإن قلت كيف قال :﴿وَأَكْثَرُهُمْ كَـاذِبُونَ﴾ بعدما قضى عليهم أن كل واحد منهم أفاك ؟
قلت : الأفاكون هم الذين يكثرون الكذب، لا أنهم الذين لا ينطقون إلا بالكذب، فأراد أن هؤلاء الأفاكين قل من يصدق منهم فيما يحكى عن الجن وأكثرهم يفتري عليهم.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٤٠
٥٤٠
اعلم أن الكفار لما قالوا : لم لا يجوز أن يقال إن الشياطين تنزل بالقرآن على محمد كما أنهم ينزلون بالكهانة على الكهنة وبالشعر على الشعراء ؟
ثم إنه سبحانه فرق بين محمد صلى الله عليه وسلّم وبين الكهنة، فذكر ههنا ما يدل على الفرق بينه عليه السلام وبين الشعراء، وذلك هو أن الشعراء يتبعهم الغاوون، أي الضالون، ثم بين تلك الغواية بأمرين : الأول :﴿أَنَّهُمْ فِى كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ﴾ والمراد منه الطرق المختلفة كقولك أنا في واد وأنت في واد، وذلك لأنهم قد يمدحون الشيء بعد أن ذموه وبالعكس، وقد يعظمونه بعد أن استحقروه وبالعكس، وذلك يدل على أنهم لا يطلبون بشعرهم الحق ولا الصدق بخلاف أمر محمد صلى الله عليه وسلّم، فإنه من أول أمره إلى آخره بقي على طريق واحد وهو الدعوة إلى الله تعالى والترغيب في الآخرة والإعراض عن الدنيا الثاني :﴿وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ﴾ وذلك أيضاً من علامات الغواة، فإنهم يرغبون في الجود ويرغبون عنه، وينفرون عن البخل ويصرون عليه، ويقدحون في الاس بأدنى شيء صدر عن واحد من أسلافهم، ثم إنهم لا يرتكبون إلا الفواحش، وذلك يدل على الغواية والضلالة.
وأما محمد صلى الله عليه وسلّم فإنه بدأ بنفسه حيث قال الله تعالى له :﴿فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ﴾ (الشعراء : ٢١٣) ثم بالأقرب فالأقرب حيث قال الله تعالى له :﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقْرَبِينَ﴾ (الشعراء : ٢١٤) وكل ذلك على خلاف طريقة الشعراء، فقد ظهر بهذا الذي بيناه أن حال محمد صلى الله عليه وسلّم ما كان يشبه حال الشعراء، ثم إن الله تعالى لما وصف الشعراء بهذه الأوصاف الذميمة بياناً لهذا الفرق استثنى عنهم الموصوفين بأمور أربعة : أحدها : الإيمان وهو قوله :﴿إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾، وثانيها : العمل الصالح وهو قوله :﴿وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ﴾، وثالثها : أن يكون شعرهم في التوحيد والنبوة ودعوة الخلق إلى الحق، وهو قوله :﴿وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا﴾، ورابعها : أن لا يذكروا هجو أحد إلا على سبيل الانتصار ممن يهجوهم، وهو قوله :﴿وَانتَصَرُوا مِنا بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ﴾ قال الله تعالى :﴿لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّواءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَن ظُلِمَ ﴾ (النساء : ١٤٨) ثم إن الشرط فيه ترك الاعتداء لقوله تعالى :﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾ (البقرة : ١٩٤) وقيل المراد بهذا الاستثناء عبدالله بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن مالك وكعب بن زهير لأنهم كانوا يهجون قريشاً، وعن كعب بن مالك :"أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال له : أهجهم، فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من رشق النبل" وكان يقول لحسان بن ثابت "قل وروح القدس معك".
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٤٠


الصفحة التالية
Icon