أما قوله :﴿إِنَّ هَـاذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾ فهو تقرير لقوله :﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى فَضَّلَنَا﴾ والمقصود منه الشكر والمحمدة كما قال عليه السلام :"أنا سيد ولد آدم ولا فخر" فإن قيل كيف قال :﴿عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا﴾ وهو من كلام المتكبرين ؟
جوابه من وجهين : الأول : أن يريد نفسه وأباه والثاني : أن هذه النون يقال لها نون الواحد المطاع وكان ملكاً مطاعاً، وقد يتعلق بتعظيم الملك مصالح فيصير ذلك التعظيم واجباً.
وأما قوله :﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمَـانَ جُنُودُه مِنَ الْجِنِّ وَالانسِ وَالطَّيْرِ﴾ فالحشر هو الإحضار والجمع من الأماكن المختلفة، والمعنى أنه جعل الله تعالى كل هذه الأصناف جنوده ولا يكون كذلك إلا بأن يتصرف على مراده، ولا يكون كذلك إلا مع العقل الذي يصح معه التكليف، أو يكون بمنزلة المراهق الذي قد قارب حد التكليف فلذلك قلنا إن الله تعالى جعل الطير في أيامه مما له عقل، وليس كذلك حال الطيور في أيامنا وإن كان فيها ما قد ألهمه الله تعالى الدقائق التي خصت بالحاجة إليها أو خصها الله بها لمنافع العباد كالنحل وغيره.
وأما قوله تعالى :﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ معناه يحبسون وهذا لا يكون إلا إذا كان في كل قبيل منها وازع، ويكون له تسلط على من يرده ويكفه ويصرفه، فالظاهر يشهد بهذا القدر والذي جاء في الخبر من أنهم كانوا يمنعون من يتقدم ليكون مسيره مع جنوده على ترتيب فغير ممتنع.
أما قوله تعالى :﴿حَتَّى ا إِذَآ أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ﴾ فقيل هو واد بالشام كثير النمل، ويقال لم عدي ﴿أَتَوْا ﴾ بعلى ؟
فجوابه من وجهين : الأول : أن إتيانهم كان من فوق فأتى بحرف الاستعلاء والثاني : أن يراد قطع الوادي وبلوغ آخره من قولهم أتى على الشيء إذا (أنفذه و) بلغ آخره كأنهم أرادوا أن ينزلوا عند منقطع الوادي، وقرىء ﴿نَمْلَةٌ يَـا أَيُّهَا النَّمْلُ﴾ بضم الميم وبضم النون والميم وكان الأصل النمل بوزن الرجل والنمل الذي عليه الاستعمال تخفيف عنه (كقولهم السبع في السبع)(١).
أما قوله تعالى :﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ﴾ فالمعنى أنها تكلمت بذلك وهذا غير مستبعد، فإن الله تعالى قادر على أن يخلق فيها العقل والنطق. وعن قتادة : أنه دخل الكوفة فالتف عليه الناس فقال سلوا عما شئتم وكان أبو حنيفة رحمه الله حاضراً وهو غلام حدث فقال سلوه عن نملة سليمان أكانت ذكراً أم أنثى ؟
فسألوه فأفحم، فقال أبو حنيفة رضي الله عنه كانت أنثى فقيل له من أين عرفت ؟
فقال من كتاب الله تعالى وهو قوله :﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ﴾ ولو كان ذكراً لقال (قال نملة)، وذلك لأن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى فيميز بينهما بعلامة نحو قولهم حمامة ذكر وحمامة أنثى وهو وهي.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٥٢
أما قوله تعالى :﴿ادْخُلُوا مَسَـاكِنَكُمْ﴾ فاعلم أن النملة لما قاربت حد العقل، لا جرم ذكرت بما يذكر به العقلاء فلذلك قال تعالى :﴿ادْخُلُوا مَسَـاكِنَكُمْ﴾ فإن قلت ﴿لا يَحْطِمَنَّكُمْ﴾ ما هو ؟
قلت يحتمل أن يكون جواباً للأمر وأن يكون نهياً بدلاً من الأمر، والمعنى لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم على طريقة : لا أرينك ههنا. وفي هذه الآية تنبيه على أمور : أحدها : أن من يسير في الطريق لا يلزمه التحرز، وإنما يلزم من في الطريق التحرز وثانيها : أن النملة قالت :﴿وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ كأنها عرفت أن النبي معصوم فلا يقع منه قتل هذه الحيوانات إلا على سبيل السهو، وهذا تنبيه عظيم على وجوب الجزم بعصمة الأنبياء عليهم السلام وثالثها : ما رأيت في بعض الكتب أن تلك النملة إنما أمرت غيرها بالدخول لأنها خافت على قومها أنها إذا رأت سليمان في جلالته، فربما وقعت في كفران نعمة الله تعالى وهذا هو المراد بقوله :﴿لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَـانُ﴾ فأمرتها بالدخول في مساكنها لئلا ترى تلك النعم فلا تقع في كفران نعمة الله تعالى، وهذا تنبيه على أن مجالسة أرباب الدنيا محذورة ورابعها : قرىء (مسكنكم) و(لا يحطمنكم) بتخفيف النون، وقرىء (لا يحطمنكم) بفتح الطاء وكسرها وأصلها يحطمنكم.
أما قوله تعالى :﴿فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا﴾ يعني تبسم شارعاً في الضحك (وآخذاً فيه)، بمعنى أنه قد تجاوز حد التبسم إلى الضحك، وإنما ضحك لأمرين : أحدهما : إعجابه بما دل من قولها على ظهور رحمته ورحمة جنوده (وشفقتهم) وعلى شهرة حاله وحالهم في باب التقوى، وذلك قولها :﴿وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ والثاني : سروره بما آتاه الله مما لم يؤت أحداً من سماعه لكلام النملة وإحاطته بمعناه.
أما قوله تعالى :﴿رَبِّ أَوْزِعْنِى ﴾ فقال صاحب "الكشاف" : حقيقة أوزعنى : اجعلني أزع شكر نعمتك عندي وأكفه عن أن ينقلب عني، حتى أكون شاكراً لك أبداً، وهذا يدل على مذهبنا فإن عند المعتزلة كل ما أمكن فعله من الألطاف فقد صارت مفعولة وطلب تحصيل الحاصل عبث.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٥٢


الصفحة التالية
Icon