أما قوله :﴿وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ ففيه وجوه : أحدها : أنهم كانوا لا يتحاشون من إظهار ذلك على وجه الخلاعة ولا يتكاتمون وذلك أحد ما لأجله عظم ذلك الفعل منهم فذكر في توبيخه لهم ماله عظم ذلك الفعل وثانيها : أن المراد بصر القلب أي تعلمون أنها فاحشة لم تسبقوا إليها وأن الله تعالى لم يخلق الذكر للذكر فهي مضادة لله في حكمته وثالثها : تبصرون آثار العصاة قبلكم وما نزل بهم، فإن قلت فسرت (تبصرون) بالعلم وبعده ﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ فكيف يكونون علماء وجهلاء ؟
قلت أراد تفعلون فعل الجاهلين بأنها فاحشة مع علمكم بذلك أو تجهلون العاقبة أو أراد بالجهل السفاهة والمجانة التي كانوا عليها، ثم إنه تعالى بين جهلهم بأن حكى عنهم أنهم أجابوا عن هذا الكلام بما لا يصلح أن يكون جواباً له فقال :﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِه إِلا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا ءَالَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُم إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ فجعلوا الذي لأجله يخرجون أنهم يتطهرون من هذا الصنيع الفاحش وهذا يوجب تنعيمهم وتعظيمهم أولى لكن في المفسرين من قال : إنما قالوا ذلك على / وجه الهزء، ثم بين تعالى أنه نجاه وأهله إلا امرأته وأهلك الباقين وقد تقدم كل ذلك مشروحاً والله أعلم، وههنا آخر القصص في هذه السورة والله أعلم.
القول في خطاب الله عز وجل مع محمد صلى الله عليه وسلّم
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٦٣
٥٦٣
في هذه الآية قولان : الأول : أنه متعلق بما قبله من القصص والمعنى الحمد لله على إهلاكهم وسلام على عباده الذين اصطفى بأن أرسلهم ونجاهم الثاني : أنه مبتدأ فإنه تعالى لما ذكر أحوال الأنبياء عليهم السلام وكان محمد صلى الله عليه وسلّم كالمخالف لمن قبله في أمر العذاب لأن عذاب الاستئصال مرتفع عن قومه، أمره تعالى بأن يشكر ربه على ما خصه بهذه النعم، وبأن يسلم على الأنبياء عليهم السلام الذين صبروا على مشاق الرسالة.
فأما قوله :﴿ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ فهو تبكيت للمشركين وتهكم بحالهم، وذلك أنهم آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله تعالى، ولا يؤثر عاقل شيئاً على شيء إلا لزيادة خير ومنفعة، فقيل لهم هذا الكلام تنبيهاً على نهاية ضلالهم وجهلهم وقرىء ﴿يُشْرِكُونَ﴾ بالياء والتاء، عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه كان إذا قرأها قال :"بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم".
ثم اعلم أنه سبحانه وتعالى تكلم بعد ذلك في عدة فصول :
الفصل الأول : في الرد على عبدة الأوثان، ومدار هذا الفصل على بيان أنه سبحانه وتعالى هو الخالق لأصول النعم وفروعها، فكيف تحسن عبادة ما لا منفعة منه ألبتة، ثم إنه سبحانه وتعالى ذكر أنواعا :
النوع الأول ـ ما يتعلق بالسموات
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٦٣
٥٦٥
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" : الفرق بين أم وأم في ﴿أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ و﴿أَمَّنْ خَلَقَ﴾ أن الأولى متصلة لأن المعنى أيهما خير وهذه منقطعة بمعنى بل، والحديقة البستان عليه سور من الإحداق وهو الإحاطة، وقيل ﴿ذَاتَ﴾ لأن المعنى جماعة حدائق ذات بهجة، كما يقال النساء ذهبت / والبهجة الحسن، لأن الناظر يبتهج به ﴿مَّعَ اللَّه بَلْ﴾ أغيره يقرن به ويجعل شريكاً له وقرىء ﴿أَنَّ مَعَ اللَّهِ﴾ بمعنى (تدعون أو تشركون).
المسألة الثانية : أنه تعالى بين أنه الذي اختص بأن خلق السموات والأرض، وجعل السماء مكاناً للماء، والأرض للنبات، وذكر أعظم النعم وهي الحدائق ذات البهجة، ونبه تعالى على أن هذا الإنبات في الحدائق لا يقدر عليه إلا الله تعالى، لأن أحدنا لو قدر عليه لما احتاج إلى غرس ومصابرة على ظهور الثمرة وإذا كان تعالى هو المختص بهذا الإنعام وجب أن يخص بالعبادة، ثم قال :﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ وقد اختلفوا فيه فقيل يعدلون عن هذا الحق الظاهر وقيل، يعدلون بالله سواه ونظير هذه الآية أول سورة الإنعام.
المسألة الثالثة : يقال ما حكمة الالتفات في قوله :﴿فَأَنابَتْنَا﴾ ؟
جوابه : أنه لا شبهة للعاقل في أن خالق السموات والأرض ومنزل الماء من السماء ليس إلا الله تعالى، وربما عرضت الشبهة في أن منبت الشجرة هو الإنسان، فإن الإنسان يقول أنا الذي ألقى البذر في الأرض الحرة وأسقيها الماء وأسعى في تشميسها، وفاعل السبب فاعل للمسبب، فإذن أنا المنبت للشجرة فلما كان هذا الاحتمال قائماً، لا جرم أزال هذا الاحتمال فرجع من لفظ الغيبة إلى قوله :﴿فَأَنابَتْنَا﴾ وقال :﴿مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنابِتُوا شَجَرَهَآ ﴾ لأن الإنسان قد يأتي بالبذر والسقي والكرب والتشميس ثم لا يأتي على وفق مراده والذي يقع على وفق مراده فإنه يكون جاهلاً بطبعه ومقداره وكيفيته فكيف يكون فاعلاً لها، فلهذه النكتة حسن الالتفات ههنا.
النوع الثاني ـ ما يتعلق بالأرض
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٦٥
٥٦٦


الصفحة التالية
Icon