أما قوله :﴿بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ فالمراد لما لم تشتغلوا بذلك العمل المهم، فأي شيء كنتم تعملونه بعد ذلك ؟
كأنه قال كل عمل سواه فكأنه ليس بعمل، ثم قال :﴿وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم﴾ يريد أن / العذاب الموعود يغشاهم بسبب تكذيبهم بآيات الله فيشغلهم عن النطق والاعتذار كقوله :﴿هَـاذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ﴾ (المرسلات : ٣٥) ثم إنه سبحانه بعد أن خوفهم بأحوال القيامة ذكر كلاماً يصلح أن يكون دليلاً على التوحيد وعلى الحشر وعلى النبوة مبالغة في الإرشاد إلى الإيمان والمنع من الكفر فقال :﴿أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا الَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ﴾ أما وجه دلالته على التوحيد فلما ظهر في العقول أن التقليب من النور إلى الظلمة، ومن الظلمة إلى النور، لا يحصل إلا بقدرة قاهرة عالية. وإما وجه دلالته على الحشر فلأنه لما ثبتت قدرته تعالى في هذه الصورة على القلب من النور إلى الظلمة وبالعكس، فأي امتناع في ثبوت قدرته على القلب من الحياة إلى الموت مرة، ومن الموت إلى الحياة أخرى. وأما وجه دلالته على النبوة فلأنه تعالى يقلب الليل والنهار لمنافع المكلفين، وفي بعثة الأنبياء والرسل إلى الخلق منافع عظيمة، فما المانع من بعثتهم إلى الخلق لأجل تحصيل تلك المنافع ؟
فقد ثبت أن هذه الكلمة الواحدة كافية في إقامة الدلالة على تصحيح الأصول الثلاثة التي منها منشؤ كفرهم واستحقاقهم العذاب، ثم في الآية سؤالان :
السؤال الأول : ما السبب في أن جعل الإبصار للنهار وهو لأهله ؟
جوابه : تنبيهاً على كمال هذه الصفة فيه.
السؤال الثاني : لما قال :﴿جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ﴾ فلم لم يقل والنهار لتبصروا فيه ؟
جوابه : لأن السكون في الليل هو المقصود من الليل، وأما الإبصار في النهار فليس هو المقصود بل هو وسيلة إلى جلب المنافع الدينية والدنيوية.
وأما قوله :﴿إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ خص المؤمنين بالذكر، وإن كانت أدلة للكل من حيث اختصوا بالقبول والانتفاع على ما تقدم في نظائره.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٧٤
٥٧٤
اعلم أن هذا هو العلامة الثانية لقيام القيامة.
أما قوله :﴿وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ﴾ ففيه وجوه : أحدها : أنه شيء شبيه بالقرن، وأن إسرافيل عليه السلام ينفخ فيه بإذن الله تعالى، فإذا سمع الناس ذلك الصوت وهو في الشدة بحيث لا تحتمله طبائعهم يفزعون عنده ويصعقون ويموتون وهو كقوله تعالى :﴿فَإِذَا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ﴾ (المدثر : ٨) وهذا قول الأكثرين وثانيها : يجوز أن يكون تمثيلاً لدعاء الموت فإن خروجهم من قبورهم كخروج الجيش / عند سماع صوت الآلة وثالثها : أن الصور جمع الصور وجعلوا النفخ فيها نفخ الروح والأول أقرب لدلالة الظاهر عليه ولا مانع يمنع منه.
أما قوله :﴿فَفَزِعَ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَن فِى الارْضِ﴾ فاعلم أنه إنما قال (ففزع) ولم يقل فيفزع للإشعار بتحقيق الفزع وثبوته، وأنه كائن لا محالة لأن الفعل الماضي يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعاً به والمراد فزعهم عند النفخة الأولى.
أما قوله :﴿إِلا مَن شَآءَ اللَّه ﴾ فالمراد إلا من ثبت الله قلبه من الملائكة قالوا هم جبريل وميكائيل وإسرافيل، وملك الموت، وقيل الشهداء، وعن الضحاك الحور وخزنة النار وحملة العرش، وعن جابر موسى منهم لأنه صعق مرة ومثله قوله تعالى :﴿وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَن فِى الارْضِ إِلا مَن شَآءَ اللَّه ﴾ (الزمر : ٦٨) وليس فيه خبر مقطوع، والكتاب إنما يدل على الجملة.
أما قوله :﴿وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾ فقرىء (أتوه) و(أتاه) ودخرين وداخرين فالجمع على المعنى والتوحيد على اللفظ والداخر والدخر الصاغر، وقيل معنى الإتيان حضورهم الموقف بعد النفخة الثانية، ويجوز أن يراد رجوعهم إلى أمر الله وانقيادهم له.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٧٤
٥٧٥
اعلم أن هذا هو العلامة الثالثة لقيام القيامة وهي تسيير الجبال، والوجه في حسبانهم أنها جامدة فلأن الأجسام الكبار إذا تحركت حركة سريعة على نهج واحد في السمت والكيفية ظن الناظر إليها أنها واقفة مع أنها تمر مراً حثيثاً.
أما قوله :﴿صُنْعَ اللَّهِ﴾ فهو من المصادر المؤكدة كقوله :﴿وَعَدَ اللَّهُ﴾ (النساء : ٩٥) و﴿صِبْغَةَ اللَّه ﴾ (البقرة : ١٣٨) إلا أن مؤكده محذوف وهو الناصب ليوم ينفخ، والمعنى أنه لما قدم ذكر هذه الأمور التي لا يقدر عليها سواه جعل هذا الصنع من جملة الأشياء التي أتقنها وأتى بها على الحكمة والصواب قال القاضي عبد الجبار فيه دلالة على أن القبائح ليست من خلقه وإلا وجب وصفها بأنها متقنة ولكن الإجماع مانع منه والجواب : أن الإتقان لا يحصل إلا في المركبات فيمتنع وصف الأعراض بها والله أعلم.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٧٥
٥٧٧


الصفحة التالية
Icon