أما قوله :﴿إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِه ﴾ فاعلم أن على قول من فسر الفراغ بالفراغ من الحزن، قد ذكرنا تفسير قوله :﴿إِن كَادَتْ لَتُبْدِى﴾ وأما على قول من فسر الفراغ بحصول الخوف فذكروا وجوهاً : أحدها : قال ابن عباس كادت تخبر بأن الذي وجدتموه ابني، وقال في رواية عكرمة كادت تقول واإبناه من شدة وجدها به وذلك حين رأت الموج يرفع ويضع، وقال الكلبي ذلك حين سمعت الناس يقولون إنه ابن فرعون وقال السدي لما أخذ ابنها كادت تقول هو ابني فعصمها الله تعالى، ثم قال :﴿لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا﴾ بإلهام الصبر كما يربط على الشيء المتفلت ليستقر ويطمئن ﴿لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ من المصدقين بوعد الله وهو قوله :﴿إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ﴾ (القصص : ٧).
أما قوله :﴿وَقَالَتْ لاخْتِه قُصِّيه ﴾ أي اتبعي أثره وانظري إلى أن وقع وإلى من صار وكانت أخته لأبيه وأمه واسمها مريم ﴿فَبَصُرَتْ بِه ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما أبصرته، قال المبرد : أبصرته وبصرت به بمعنى واحد وقوله :﴿عَن جُنُبٍ﴾ أي عن بعد وقرىء عن جانب وعن جنب والجنب الجانب أي نظرت نظرة مزورة متجانبة ﴿وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ بحالها وغرضها.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٨٣
٥٨٦
اعلم أن قوله :﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ﴾ يقتضي تحريمها من قبله فإذا لم يصح بالتعبد والنهي لتعذر التمييز فلا بد من فعل سواه وذلك الفعل يحتمل أنه تعالى مع حاجته إلى اللبن أحدث فيه نفار الطبع عن لبن سائر النساء، فلذلك لم يرضع أو أحدث في لبنهن من الطعم ما ينفر عنه طبعه أو وضع في لبن أمه لذة فلما تعودها لا جرم كان يكره لبن غيرها، وعن الضحاك كانت أمه قد أرضعته ثلاثة أشهر حتى عرف ريحها والمراضع جمع مرضع، وهي المرأة التي ترضع أو جمع مرضع وهو موضع الرضاع أي الثدي أو الرضاع وقوله :﴿مِن قَبْلُ﴾ أي من قبل أن رددناه إلى أمه ومن قبل مجيء أخت موسى عليه السلام، ومن قبل ولادته في حكمنا وقضائنا فعند ذلك قالت أخته ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى ا أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَه لَكُمْ﴾ أي يضمنون رضاعه والقيام بمصالحه وهم له ناصحون لا يمنعونه ما ينفعه في تربيته وإغذائه، ولا يخونونكم فيه والنصح إخلاص العمل من شائبة الفساد، وقال السدي إنها لما قالت :﴿وَهُمْ لَه نَـاصِحُونَ﴾ دل ظاهر ذلك على أن أهل البيت يعرفونه فقال لها هامان قد عرفت هذا الغلام فدلينا على أهله فقالت ما أعرفه، ولكني إنما قلت هم للملك ناصحون ليزول شغل قلبه، وكل ما روي في هذا الباب يدل على أن فرعون كان بمنزلة آسية في شدة محبته لموسى عليه السلام، لا على ما قال من زعم أنها كانت مختصة بذلك فقط ثم قال تعالى :﴿فَرَدَدْنَـاهُ إِلَى ا أُمِّه ﴾ بهذا الضرب من اللطف ﴿كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ أي فيما كان وعدها من أنه يرده إليها، ولقد كانت عالمة بذلك، ولكن ليس الخبر كالعيان فتحققت بوجود الموعود ﴿وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ فيه وجوه أربعة : أحدها : ولكن أكثر الناس في ذلك العهد وبعد لا يعلمون لإعراضهم عن النظر في آيات الله وثانيها : قال الضحاك ومقاتل يعني أهل مصر لا يعلمون أن الله وعدها برده إليها وثالثها : هذا كالتعريض بما فرط منها حين سمعت بخبر موسى عليه السلام فجزعت وأصبح فؤادها فارغاً ورابعها : أن يكون المعنى إنا إنما رددناه إليها ﴿وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ والمقصود الأصلي من ذلك الرد هذا الغرض الديني، ولكن الأكثر لا يعلمون أن هذا هو الغرض الأصلي، وأن ما سواه من قرة العين وذهاب الحزن تبع، قال الضحاك لما قبل ثديها قال هامان إنك لأمه، قالت لا قال فما بالك قبل ثديك من بين النسوة قالت أيها الملك إني امرأة طيبة الريح حلوة اللبن ما شم ريحي صبي إلا أقبل على ثديي، قالوا صدقت فلم يبق أحد من آل فرعون إلا أهدى إليها وأتحفها بالذهب والجواهر.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٨٦
٥٨٧


الصفحة التالية
Icon