أما قوله :﴿عَسَى رَبِّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَآءَ السَّبِيلِ﴾ فهو نظير قول جده إبراهيم عليه السلام :﴿إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ﴾ (الصافات : ٩٩) وموسى عليه السلام قلما يذكر كلاماً في الاستدلال والجواب والدعاء والتضرع إلا ما ذكره إبراهيم عليه السلام، وهكذا الخلف الصدق للسلف الصالح صلوات الله عليهم وعلى جميع الطيبين المطهرين ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ﴾ وهو الماء الذي يسقون منه وكان بئراً فيما روي ووروده مجيئه والوصول إليه ﴿وَجَدَ عَلَيْهِ﴾ أي فوق شفيره ومستقاه ﴿أُمَّةٍ﴾ جماعة كثيرة العدد ﴿مِّنَ النَّاسِ﴾ من أناس مختلفين ﴿وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ﴾ في مكان أسفل من مكانهم ﴿امْرَأَتَينِ تَذُودَانِ ﴾ والذود الدفع والطرد فقوله (تذودان) أي تحبسان ثم فيه أقوال : الأول : تحبسان أغنامهما واختلفوا في علة ذلك الحبس على وجوه : أحدها : قال الزجاج لأن على الماء من كان أقوى منهما فلا يتمكنان من السقي وثانيها : كانتا تكرهان المزاحمة على الماء وثالثها : لئلا تختلط أغنامهما بأغنامهم ورابعها : لئلا تختلطا بالرجال القول الثاني : كانتا تذودان عن وجوههما نظراً الناظر ليراهما والقول الثالث : تذودان الناس عن غنمهما القول الرابع : قال الفراء تحبسانها عن أن تتفرق وتتسرب ﴿قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ﴾ أي ما شأنكما وحقيقته ما مخطوبكما أي مطلوبكما من الذياد فسمى المخطوب خطباً كما يسمى المشئون شأناً في قولك ما شأنك ﴿قَالَتَا لا نَسْقِى حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَآءُا وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾ وذلك يدل على ضعفهما عن السقي من وجوه : أحدها : أن العادة في السقي للرجال، والنساء يضعفن عن ذلك وثانيها : ما ظهر من ذودهما الماشية على طريق التأخير وثالثها : قولهما حتى يصدر الرعاء ورابعها : انتظارهما لما يبقى من القوم من الماء وخامسها : قولهما :﴿وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾ ودلالة ذلك على أنه لو كان قوياً حضر ولو حضر لم يتأخر السقي، فعند ذلك سقى لهما قبل صدر الرعاء، وعادتا إلى أبيهما قبل الوقت المعتاد. قرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم بفتح الياء وضم الدال، وقرأ الباقون بضم الياء، وكسر الدال فالمعنى في القرارة الأولى حتى ينصرفوا عن الماء ويرجعوا عن سقيهم وصدر ضد ورد، ومن قرأ بضم الياء فالمعنى في القراءة حتى يصدر القوم مواشيهم.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٩٦
أما قوله :﴿فَسَقَى لَهُمَا﴾ أي سقى غنمهما لأجلهما، وفي كيفية السقي أقوال : أحدها : أنه عليه السلام سأل القوم أن يسمحوا فسمحوا وثانيهما : قال قوم عمد إلى بئر على رأسه صخرة لا يقلها إلا عشرة، وقيل أربعون، وقيل مائة فنحاها بنفسه واستقى الماء من ذلك البئر وثالثها : أن القوم لما زاحمهم موسى عليه السلام تعمدوا إلقاء ذلك الحجر على رأس البئر فهو عليه السلام رمى ذلك الحجر وسقى لهما وليس بيان ذلك في القرآن والله أعلم بالصحيح منه، لكن المرأة وصفت موسى عليه السلام بالقوة فدل ذلك على أنها شاهدت منه ما يدل على فضل قوته، وقال تعالى :﴿ثُمَّ تَوَلَّى ا إِلَى الظِّلِّ﴾ وفيه دلالة على أنه سقى لهما في شمس وحر، وفيه دلالة أيضاً على كمال قوة موسى عليه السلام، قال الكلبي : أتى موسى أهل الماء فسألهم دلواً من ماء، فقالوا له إن / شئت ائت الدلو فاستق لهما قال نعم، وكان يجتمع على الدلو أربعون رجلاً حتى يخرجوه من البئر فأخذ موسى عليه السلام الدلو فاستقى به وحده وصب في الحوض ودعا بالبركة ثم قرب غنمهما فشربت حتى رويت ثم سرحهما مع غنمهما. فإن قيل كيف ساغ لنبي الله الذي هو شعيب أن يرضى لابنتيه بسقي الماشية ؟
قلنا ليس في القرآن ما يدل على أن أباهما كان شعيباً والناس مختلفون فيه، فقال ابن عباس رضي الله عنهما إن أباهما هو بيرون ابن أخي شعيب وشعيب مات بعدما عمي وهو اختيار أبي عبيد وقال الحسن إنه رجل مسلم قبل الدين عن شعيب على أنا وإن سلمنا أنه كان شعيباً عليه السلام لكن لا مفسدة فيه لأن الدين لا يأباه، وأما المروءة فالناس فيها مختلفون وأحوال أهل البادية غير أحوال أهل الحضر، لا سيما إذا كانت الحالة حالة الضرورة.
وأما قوله :﴿فَقَالَ رَبِّ إِنِّى لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ فالمعنى إني لأي شيء أنزلت إلي من خير قليل أو كثير غث أو سمين لفقير، وإنما عدى فقيراً باللام لأنه ضمن معنى سائل وطالب.


الصفحة التالية
Icon