واعلم أن هذه الشبهة ساقطة لأن حاصلها يرجع إلى التقليد ولأن حال الأولين لا يخلو من وجهين، إما أن لا يورد عليهم بمثل هذه الحجة فحينئذ الفرق ظاهر أو أورد عليهم فدفعوه فحينئذ / لا يجوز جعل جهلهم وخطئهم حجة، فعند ذلك قال موسى عليه السلام وقد عرف منهم العناد ﴿رَبِّى أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِالْهُدَى مِنْ عِندِه وَمَن تَكُونُ لَه عَـاقِبَةُ الدَّارِ ﴾ فإن من أظهر الحجة ولم يجد من الخصم اعتراضاً عليها وإنما لما وجد منه العناد صح أن يقول ربي أعلم بمن معه الهدى والحجة منا جميعاً ومن هو على الباطل ويضم إليه طريق الوعيد والتخويف وهو قوله :﴿وَمَن تَكُونُ لَه عَـاقِبَةُ الدَّارِ ﴾ من ثواب على تمسكه بالحق أو من عقاب وعاقبة الدار هي العاقبة المحمودة والدليل عليه قوله تعالى :﴿ أولئك لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّـاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ ءَابَآاـاِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّـاتِهِم وَالْمَلَـا اـاِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ﴾ (الرعد : ٢٢، ٢٣) وقوله :﴿وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّـارُ لِمَنْ عُقْبَى﴾ (البلد : ٤٢) والمراد بالدار الدنيا وعاقبتها وعقباها أن يختم للعبد بالرحمة والرضوان وتلقى الملائكة بالبشرى عند الموت فإن قيل العاقبة المحمودة والمذمومة كلتاهما يصح أن تسمى عاقبة الدار/ لأن الدنيا قد تكون خاتمتها بخير في حق البعض وبشر في حق البعض الآخر، فلم اختصت خاتمتها بالخير بهذه التسمية دون خاتمتها بالشر ؟
قلنا إنه قد وضع الله سبحانه الدنيا مجازاً إلى الآخرة وأمر عباده أن لا يعملوا فيها إلا الخير ليبلغوا خاتمة الخير وعاقبة الصدق، فمن عمل فيها خلاف ما وضعها الله له فقد حرف، فإذن عاقبتها الأصلية هي عاقبة الخير، وأما عاقبة السوء فلا اعتداد بها لأنها من نتائج تحريف الفجار، ثم إنه عليه السلام أكد ذلك بقوله :﴿بِـاَايَـاتِه ا إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّـالِمُونَ﴾ والمراد أنهم لا يظفرون بالفوز والنجاة والمنافع بل يحصلون على ضد ذلك وهذا نهاية في زجرهم عن العناد الذي ظهر منهم.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٦٠٢
٦٠٥
اعلم أن فرعون كانت عادته متى ظهرت حجة موسى أن يتعلق في دفع تلك الحجة بشبهة يروجها على أغمار قومه وذكر ههنا شبهتين الأولى : قوله :﴿مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرِى﴾ وهذا في الحقيقة يشتمل على كلامين : أحدهما : نفى إله غيره والثاني : إثبات إلهية نفسه، فأما الأول فقد كان اعتماده على أن ما لا دليل عليه لم يجز إثباته، أما أنه لا دليل عليه فلأن هذه الكواكب والأفلاك كافية في اختلاف أحوال هذا العالم السفلي فلا حاجة إلى إثبات صانع، وأما أن ما لا دليل عليه لم يجز إثباته فالأمر فيه ظاهر.
واعلم أن المقدمة الأولى كاذبة فإنا لا نسلم أنه لا دليل على وجود الصانع وذلك لأنا إذا عرفنا بالدليل حدوث الأجسام عرفنا حدوث الأفلاك والكواكب، وعرفنا بالضرورة أن المحدث لا بد له من محدث فحينئذ نعرف بالدليل أن هذا العالم له صانع، والعجب أن جماعة اعتمدوا في نفي كثير من الأشياء على أن قالوا لا دليل عليه فوجب نفيه، قالوا وإنما قلنا إنه لا دليل لأنا بحثنا وسبرنا فلم نجد عليه دليلاً، فرجع حاصل كلامهم بعد التحقيق إلى أن كل ما لا يعرف عليه دليل وجب نفيه، وإن فرعون لم يقطع بالنفي بل قال لا دليل عليه فلا أثبته بل أظنه كاذباً في دعواه، ففرعون على نهاية جهله أحسن حالاً من هذا المستدل. أما الثاني وهو إثباته إلهية نفسه، فاعلم أنه ليس المراد منه أنه كان يدعي كونه خالقاً للسموات والأرض والبحار والجبال وخالقاً لذوات الناس وصفاتهم، فإن العلم بامتناع ذلك من أوائل العقول فالشك فيه يقتضي زوال العقل، بل الإله هو المعبود فالرجل كان ينفي الصانع ويقول لا تكليف على الناس إلا أن يطيعوا ملكهم وينقادوا لأمره، فهذا هو المراد من ادعائه الإلهية لا ما ظنه الجمهور من ادعائه كونه خالقاً للسماء والأرض، لا سيما وقد دللنا في سورة طه (٤٩) في تفسير قوله :﴿فَمَن رَّبُّكُمَا يَـامُوسَى ﴾ على أنه كان عارفاً بالله تعالى وأنه كان يقول ذلك ترويجاً على الأغمار من الناس الشبهة الثانية : قوله :﴿فَأَوْقِدْ لِى يَـاهَـامَـانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّى صَرْحًا لَّعَلِّى أَطَّلِعُ إِلَى ا إِلَـاهِ مُوسَى وَإِنِّى لاظُنُّه مِنَ الْكَـاذِبِينَ﴾ وههنا أبحاث :
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٦٠٥
الأول : تعلقت المشبهة بهذه الآية في أن الله تعالى في السماء قالوا لولا أن موسى عليه السلام دعاه إلى ذلك لما قال فرعون هذا القول والجواب : أن موسى عليه السلام دل فرعون بقوله :/ ﴿رَبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ﴾ (الشعراء : ٢٤) ولم يقل هو الذي في السماء دون الأرض، فأوهم فرعون أنه يقول إن إلهه في السماء/ وذلك أيضاً من خبث فرعون ومكره ودهائه.


الصفحة التالية
Icon