أما قوله :﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا﴾ يريد مناداة موسى ليلة المناجاة وتكليمه ﴿وَلَـاكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾ أي علمناك رحمة، وقرأ عيسى بن عمر بالرفع أي هي رحمة، وذكر المفسرون في قوله :﴿إِذْ نَادَيْنَا﴾ وجوهاً أخر أحدها : إذ نادينا أي قلنا لموسى ﴿وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ ﴾ إلى قوله :﴿ أولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الأعراف : ١٥٦، ١٥٧). وثانيها : قال ابن عباس إذ نادينا أمتك في أصلاب آبائهم :"يا أمة محمد أجبتكم قبل أن تدعوني، وأعطيتكم قبل أن تسألوني، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني" قال وإنما قال الله تعالى ذلك حين اختار موسى عليه السلام سبعين رجلاً لميقات ربه وثالثها : قال وهب :"لما ذكر الله لموسى فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلّم قال رب أرنيهم قال إنك لن تدركهم وإن شئت أسمعتك أصواتهم قال بلى يا رب فقال سبحانه يا أمة محمد فأجابوه من أصلاب آبائهم فأسمعه الله تعالى أصواتهم ثم قال : أجبتكم قبل أن تدعوني" الحديث كما ذكره ابن عباس ورابعها : روى سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم في قوله :﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا﴾ قال كتب الله كتاباً قبل أن يخلق الخلق بألفي عام ثم وضعه على العرش ثم / نادى "يا أمة محمد إن رحمتي سبقت غضبي أعطيتكم قبل أن تسألوني وغفرت لكم قبل أن تستغفروني من لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله أدخلته الجنة".
أما قوله :﴿لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّآ أَتَـاـاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ﴾ فالإنذار هو التخويف بالعقاب على المعصية. واعلم أنه تعالى لما بين قصة موسى عليه السلام قال لرسوله :﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِىِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الامْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّـاهِدِينَ﴾ فجمع تعالى بين كل ذلك لأن هذه الأحوال الثلاثة هي الأحوال العظيمة التي اتفقت لموسى عليه السلام إذ المراد بقوله :﴿إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الامْرَ﴾ إنزال التوراة حتى تكامل دينه واستقر شرعه والمراد بقوله :﴿وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا﴾ أول أمره والمراد ناديناه وسط أمره وهو ليلة المناجاة، ولما بين تعالى أنه عليه السلام لم يكن في هذه الأحوال حاضراً بين تعالى أنه بعثه وعرفه هذه الأحوال رحمة للعالمين ثم فسر تلك الرحمة بأن قال :﴿لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّآ أَتَـاـاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ﴾ واختلفوا فيه فقال بعضهم لم يبعث إليهم نذير منهم : وقال بعضهم : حجة الأنبياء كانت قائمة عليهم ولكنه ما بعث إليهم من يجد تلك الحجة عليهم، وقال بعضهم لا يبعد وقوع الفترة في التكاليف فبعثه الله تعالى تقريراً للتكاليف وإزالة لتلك الفترة.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٥
أما قوله :﴿وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةُ ﴾ الآية فقال صاحب "الكشاف" :(لولا) الأولى امتناعية وجوابها محذوف، والثانية تحضيضية، والفاء في قوله ﴿فَيَقُولُوا ﴾ للعطف، (وفي قوله للعطف). وفي قوله :﴿فَنَتَّبِعَ﴾ جواب (لولا) لكونها في حكم الأمر من قبل أن الأمر باعث على الفعل، والباعث والمحضض من واد واحد، والمعنى لولا أنهم قائلون إذا عوقبوا بما قدموا من الشرك والمعاصي : هلا أرسلت إلينا رسولاً، محتجين علينا بذلك لما أرسلنا إليهم، يعني إنما أرسلنا الرسول إزالة لهذا العذر وهو كقوله :﴿لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾ (النساء : ١٦٥) ﴿أَن تَقُولُوا مَا جَآءَنَا مِنا بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ ﴾ (المائدة : ١٩) ﴿لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ ءَايَـاتِكَ﴾ واعلم أنه تعالى لم يقل ولولا أن يقولوا هذا العذر لما أرسلنا، بل قال :﴿وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَة بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا ﴾ هذا العدو لما أرسلنا وإنما قال ذلك لنكتة وهي أنهم لو لم يعاقبوا مثلاً وقد عرفوا بطلان دينهم لما قالوا ذلك، بل إنما يقولون ذلك إذا نالهم العقاب فيدل ذلك على أنهم لم يذكروا هذا العذر تأسفاً على كفرهم، بل لأنهم ما أطاقوا وفيه تنبيه على استحكام كفرهم ورسوخه فيهم كقوله :﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ (الأنعام : ٢٨) وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : احتج الجبائي على وجوب فعل اللطف قال لو لم يجب ذلك لم يكن لهم أن يقولوا : هلا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك، إذ من الجائز أن لا يبعث إليهم وإن كانوا لا يختارون الإيمان إلا عنده على قول من خالف في وجوب اللطف كما مر أن الجائز إذا كان في المعلوم لو خلق له لم يمكن إلا أن يفعل ذلك.


الصفحة التالية
Icon