فقوله :﴿إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ﴾ يدل على التعليل يعني أن كونه حقاً من عند الله يوجب الإيمان به وقوله :﴿إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِه مُسْلِمِينَ﴾ بيان لقوله :﴿بِه إِنَّهُ﴾ لأنه يحتمل أن يكون إيماناً قريب العهد وبعيده، فأخبروا أن إيمانهم به متقادم وذلك لما وجدوه في كتب الأنبياء عليهم السلام المتقدمين من البشارة بمقدمه، ثم إنه تعالى لما مدحهم بهذا المدح العظيم قال :﴿ أولئك يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا ﴾ وذكروا فيه وجوهاً : أحدها : أنهم يؤتون أجرهم مرتين بإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلّم قبل بعثته وبعد بعثته وهذا هو الأقرب لأنه تعالى لما بين أنهم آمنوا به بعد البعثة وبين أيضاً أنهم كانوا به قبل مؤمنين البعثة ثم أثبت الأجر مرتين وجب أن ينصرف إلى ذلك وثانيها : يؤتون الأجر مرتين مرة بإيمانهم بالأنبياء الذي كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلّم ومرة أخرى بإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلّم وثالثها : قال مقاتل هؤلاء لما آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلّم شتمهم المشركون فصفحوا عنهم فلهم أجران أجر على الصف وأجر على الإيمان، يروى أنهم لما أسلموا لعنهم أبو جهل فسكتوا عنه، قال السدي اليهود / عابوا عبد الله بن سلام وشتموه وهو يقول سلام عليكم ثم قال :﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾ والمعنى (يدفعون) بالطاعة المعصية المتقدمة، ويحتمل أن يكون المراد دفعوا بالعفو والصفح الأذى، ويحتمل أن يكون المراد من الحسنة امتناعهم من المعاصي لأن نفس الامتناع حسنة ويدفع به ما لولاه لكان سيئة، ويحتمل التوبة والإنابة والاستقرار عليها، ثم قال :﴿وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ﴾.
واعلم أنه تعالى مدحهم أولاً بالإيمان ثم بالطاعات البدنية في قوله :﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾ ثم بالطاعات المالية في قوله :﴿وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ قال القاضي دل هذا المدح على أن الحرام لا يكون رزقاً جوابه : أن كلمة من للتبعيض فدل على أنهم استحقوا المدح بإنفاق بعض ما كان رزقاً، وعلى هذا التقدير يسقط استدلاله، ثم لما بين كيفية اشتغالهم بالطاعات والأفعال الحسنة بين كيفية إعراضهم عن الجهال فقال :﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ﴾ واللغو ما حقه أن يلغى ويترك من العبث وغيره وكانوا يسمعون ذلك فلا يخوضون فيه بل يعرضون عنه إعراضاً جميلاً فلذلك قال تعالى :﴿وَقَالُوا لَنَآ أَعْمَـالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَـالُكُمْ سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ﴾ وما أحسن ما قال الحسن رحمه الله في أن هذه الكلمة تحية بين المؤمنين، وعلامة الاحتمال من الجاهلين، ونظير هذه الآية قوله تعالى :﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَـن ِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الارْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَـاهِلُونَ قَالُوا سَلَـامًا﴾ (الفرقان : ٦٣) ثم أكد تعالى ذلك بقوله حاكياً عنهم ﴿لا نَبْتَغِى الْجَـاهِلِينَ﴾ والمراد لا نجازيهم بالباطل على باطلهم، قال قوم نسخ ذلك بالأمر بالقتال وهو بعيد لأن ترك المسافهة مندوب، وإن كان القتال واجباً.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٧
اعلم أن في قوله تعالى :﴿إِنَّكَ لا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ ﴾ مسائل :
المسألة الأولى : هذه الآية لا دلالة في ظاهرها على كفر أبي طالب ثم قال الزجاج : أجمع المسلمون على أنها نزلت في أبي طالب وذلك أن أبا طالب قال عند موته يا معشر بني عبد مناف أطيعوا محمداً وصدقوه تفلحوا وترشدوا، فقال عليه السلام "يا عم تأمرهم بالنصح لأنفسهم وتدعها لنفسك قال فما تريد يا ابن أخي ؟
قال أريد منك كلمة واحدة، فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا أن تقول لا إله إلا الله، أشهد لك بها عند الله تعالى، قال يا أخي قد علمت أنك صادق ولكني أكره أن يقال جزع عند الموت ولولا أن يكون عليك وعلى بني إبيك غضاضة ومسبة بعدي لقلتها ولأقررت بها عينك عند الفراق لما أرى من شدة وجدك ونصحك، ولكني سوف أموت على ملة الأشياخ عبد المطلب وهاشم وعبد مناف".
المسألة الثانية : أنه تعالى قال في هذه الآية :﴿إِنَّكَ لا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ وقال في آية أخرى :﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (الشورى : ٥٢) ولا تنافي بينهما فإن الذي أثبته وأضافه إليه الدعوة والبيان والذي نفى عنه هداية التوفيق، وشرح الصدر وهو نور يقذف في القلب فيحيا به القلب كما قال سبحانه :﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـاهُ وَجَعَلْنَا لَه نُورًا﴾ (الأنعام : ١٢٢) الآية.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٨


الصفحة التالية
Icon