ذكر الله ما يوجب تسليتهم فقال : كذلك فعل الله بمن قبلكم ولم يتركهم بمجرد قولهم ﴿مِنْ﴾ بل فرض عليهم الطاعات وأوجب عليهم وفي قوله :﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا ﴾ وجوه : الأول : قول مقاتل فليرين الله الثاني : فليظهرن الله الثالث : فليميزن الله، فالحاصل على هذا هو أن المفسرين ظنوا أن حمل الآية على ظاهرها يوجب تجدد علم الله والله عالم بالصادق والكاذب قبل الامتحان، فكيف يمكن أن يقال بعلمه عند الامتحان فنقول الآية محمولة على ظاهرها وذلك أن علم الله صفة يظهر فيها كل ما هو واقع كما هو واقع، فقبل التكليف كان الله يعلم أن زيداً مثلا سيطيع وعمراً سيعصي، ثم وقت التكليف والاتيان يعلم أنه مطيع والآخر عاص وبعد الاتيان يعلم أنه أطاع والآخر عصى ولا يتغير علمه في شيء من الأحوال، وإنما المتغير المعلوم ونبين هذا بمثال من الحسيات ولله المثل الأعلى، وهو أن المرآة الصافية الصقيلة إذا علقت من موضع وقوبل بوجهها جهة ولم تحرك ثم عبر عليها زيد لابساً ثوباً أبيض ظهر فيها زيد في ثوب أبيض، وإذا عبر عليها عمرو في لباس أصفر يظهر فيها كذلك فهل يقع في ذهن أحد أن المرآة في كونها حديداً تغيرت، أو يقع له أنها في تدويرها تبدلت، أو يذهب فهمه إلى أنها في صقالتها اختلفت أو يخطر بباله أنها عن سكانها انتقلت، لا يقع لأحد شيء من هذه الأشياء ويقطع بأن المتغير الخارجات، فافهم علم الله من هذا المثال بل أعلى من هذا المثال، فإن المرآة ممكنة التغير وعلم الله غير ممكن عليه ذلك فقوله :﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا ﴾ يعني يقع ممن يعلم الله أن يطيع الطاعة فيعلم أنه مطيع بذلك العلم ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَـاذِبِينَ﴾ يعني من قال أنا مؤمن وكان صادقاً عند فرض العبادات يظهر منه ذلك ويعلم ومن قال ذلك وكان منافقاً كذلك يبين، وفي قوله :﴿الَّذِينَ صَدَقُوا ﴾ بصيغة الفعل وقوله ﴿الْكَـاذِبِينَ﴾ باسم الفاعل فائدة مع أن الاختلاف في اللفظ أدل على الفصاحة، وهي أن اسم الفاعل يدل في كثير من المواضع على ثبوت المصدر في الفاعل ورسوخه فيه والفعل الماضي لا يدل عليه كما يقال فلان شرب الخمر وفلان شارب الخمر وفلان نفذ أمره وفلان نافذ الأمر فإنه لا يفهم من صيغة الفعل التكرار والرسوخ، ومن اسم الفاعل يفهم ذلك إذا ثبت هذا فنقول وقت نزول الآية كانت الحكاية عن قوم قريبي العهد بالإسلام في أوائل ايجاب التكاليف وعن قوم مستديمين للكفر مستمرين عليه فقال في حق المؤمنين ﴿الَّذِينَ صَدَقُوا ﴾ بصيغة الفعل أي وجد منهم الصدق وقال في حق الكافر ﴿الْكَـاذِبِينَ﴾ بالصيغة المنبئة عن الثبات والدوام ولهذا قال :﴿يَوْمُ يَنفَعُ الصَّـادِقِينَ صِدْقُهُمْ ﴾ (المائدة : ١١٩) بلفظ اسم الفاعل، وذلك لأن في اليوم المذكور الصدق قد يرسخ في قلب / المؤمن وهو اليوم الآخر ولا كذلك في أوائل الإسلام.
جزء : ٢٥ رقم الصفحة : ٢٨
٢٩
لما بين حسن التكليف بقوله :﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا ﴾ بين أن من كلف بشيء ولم يأت به يعذب وإن لم يعذب في الحال فسيعذب في الإستقبال ولا يفوت الله شيء في الحال ولا في المآل، وهذا إبطال مذهب من يقول التكاليف إرشادات والإيعاد عليه ترغيب وترهيب ولا يوجد من الله تعذيب ولو كان يعذب ما كان عاجزاً عن العذاب عاجلاً فلم كان يؤخر العقاب فقال تعالى :﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا ﴾ يعني ليس كما قالوا بل يعذب من يعذب ويثيب من يثيب بحكم الوعد والإيعاد والله لا يخلف الميعاد، وأما الإمهال فلا يفضي إلى الإهمال والتعجيل في جزاء الأعمال شغل من يخاف الفوت لولا الإستعجال.
ثم قال تعالى :﴿سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ يعني حكمهم بأنهم يعصون ويخالفون أمر الله ولا يعاقبون حكم سيء فإن الحكم الحسن لا يكون إلا حكم العقل أو حكم الشرع والعقل لا يحكم على الله بذلك فإن الله له أن يفعل ما يريد والشرع حكمه بخلاف ما قالوه، فحكمهم حكم في غاية السوء والرداءة.
ثم قال :﴿مَن كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لاتٍا وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.
لما بين بقوله : أحسب الناس أن العبد لا يترك في الدنيا سدى، وبين في قوله :﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ أن من ترك ما كلف به يعذب كذا بين أن يعترف بالآخرة ويعمل لها لا يضيع عمله ولا يخيب أمله، وفي الآية مسائل :


الصفحة التالية
Icon